كل رحلة هى شهادة ميلاد جديدة
ما هى الدوافع التى تحركنا لارتياد المجهول
البنت المصرية تنافس الشباب فى السفر
لماذا نسافر؟ .. لماذا نتحمل المتاعب و نلقى بأنفسنا إلى المجهول؟ أحيانا نذهب إلى أماكن لا نجد فيها جرعة ماء و نتحمل العطش و نواصل الرحلة .. و أحيانا نذهب إلى مكان لا نجد فيه النومة المريحة .. مع ذلك نقوم فى الصباح بنشاط و كأننا نمنا على ريش نعام .. و أحيانا نذهب إلى أماكن و ليس معنا قرش واحد .. و لا نعلم وسيلة للعمل .. نعمل و نأكل ..!
لماذا نتحمل كل هذه المتاعب .. أليس الأفضل أن نظل فى بيوتنا حيث نجد ما يرضى العادات التى كوناها سواء عادانا فى الأكل أو النوم .. أليس الكسل أفضل لأنه أريح..؟
هذا السؤال شغلنى لأنى سمعت أكثر من مرة .. بعض الآباء يحاولون اقناع أبنائهم بالبقاء فى البيت و الأبناء يحاولون اقناع أبائهم بأن يسمحوا لهم بالسفر إلى الخارج فى رحلات طويلة و بعيدة إلى بلاد لم يعرفها الآباء بالكاد سمعوا عنها و بعضهم يقرأ عنها فى الصحف و بعض الأبناء يحاولون اقناع أبائهم بأن يسمحوا لهم بالسفر فى رحلات الأوتو ستوب أو غيرها من وسائل السفر التى يعرفها الشباب فى كل بلاد العالم.
السؤال و اجابته
السؤال يطرق عقول و أفكار الآباء و غالبا يستطيع الأبناء أن يقنعوا آبائهم و الدليل على ذلك أن عدد الطلبة و الطالبات الذين سافروا خلال هذا الصيف إلى الخارج بلغ 60 ألفا من بينهم 5 آلاف فتاة تسافر أغلبهن إلى عواصم أوروبا للمرة الأولى ..!
و تجربة سفر الشباب إلى الخارج بدأت منذ خمس سنوات بــــ 20 طالبا فقط و لم تكن بينهم طالبة واحدة و فى كل عام كان العدد يتزايد حتى وصل فى العام الماضى إلى 20 ألف طالب و طالبة .. و قفز مرة واحدة هذا العام إلى 60 ألفا .. لماذا يسافر هؤلاء و لماذا يقتنع آباؤهم و يسمحون لهم بالسفر.
دوافع لارتياد المجهول
هناك أكثر من سبب .. ان الإنسان يتميز عن غيره من الكائنات بالقدرة على التعلم و الاستفادة من الخبرات التى يمر بها .. و يستطيع الإنسان أن يتعلم من مشاهدته مثلما يتعلم من الكتب و المدرسة و هو لهذا يحب أن يذهب ليرى بنفسه الأشياء و الأماكن التى قرأ أو سمع عنها .. لهذا نجد آلاف السياح الأجانب يزورون مصر ليروا بأنفسهم الأهرامات أو معابد الأقصر .. و ليس من رأى كمن سمع..
و فى الإنسان رغبة خفية فى المغامرة إذا استطاع أن يطلقها و أن يوجهها .. يمكن أن تصبح مرشده فى التقدم و الانطلاق فى حياته و إذا قتلها فإنه يقع فريسة الروتين و يظل فى مكانه يسجنه التردد و يقتله الخوف ..
و فى الإنسان نزعة إلى حب الاستطلاع و أن يبحث عن الجديد و أن يتحرك .. حب الاستطلاع هو أساس المعرفة و هو اساس الحكمة و هو أساس الخبرة فإذا قتلناه فى أنفسنا أصبحنا نوعا من الجماد الذى يظل فى مكانه تمر به الأشياء و الأحداث و لا يتحرك هو إليها .. ينتظر الناس ليذهبوا هم إليه و لا يذهب هو إليهم .. و أخطر من هذا أن ينتقل الجمود فى أسلوب المعرفة إلى السلبية فى أسلوب الحياة ..
و الحياة إذا سارت على نمط واحد أصبحت شيئا قاتلا .. الأيام تمر دون أن نشعر بها .. و مع الوقت نفقد احساسنا بالأشياء و الأحداث من حولنا .. التغيير و الإغتراب يكسر جاجز الألفة و الروتين و يجعلنا نشعر بإيقاع جديد فى حياتنا ..
تجربة التغيير
كتب يوسف إدريس مرة أنه تعود أن يذهب إلى عمله كل يوم عن طريق شارع القصر العينى و يعود من نفس الطريق .. فى أول الأمر كان السير فى هذا الشارع بهجة لأن كل ما كان يراه فيه كان جديدا عليه .. لأن كل ما كان يراه فيه كان جديدا عليه .. و لكن طول المدة و كثرة التعود أفقده لذة الاحساس بالشارع و من فيهحتى أصبح قطعة بلا وعى و بدون أن يفكر .. أصبح يكفى أن يضع نفسه فى أول الشارع ليجد نفسه أتوماتيكيا قد وصل إلى بيته بطريقة تلقائية لا دخل للإرادة فيها .. و كان ستسهل هذة الطريقة اللا إرادية و لا يفكر أبدا فى تغييرها .. و فى يوم و خارج من العمل خطر له خاطر .. قال لنفسه لماذا لا أغير شارع القصر العينى و أحاول أن أعود إلى البيت مرة أخرى عن طريق شارع آخر .. و أخذ شارع الفلكى و من أول لحظة و ضع قدمه فيه بدأت حواسه تنتبه و بدأ يمشى حقيقة و لا يتوقف و لكن لا يترك شيئا يمر من أمامه دون أن يراه أ يلحظه أو يفكر فيه..
و يقول يوسف إدريس : صحيح أن المسافة كانت أطول و لكنى عشت بكيانى كله فى تلك الدقائق التى قطعته فيها و كأننى طفل يتفرج على دنيا جديدة لم تخطر له على بال و حين عدت إلى البيت بدأت أفكر فيه و فى مشاكله بطريقة جديدة و بروح جديدة و بدأت أحس أنى كائن آخر غير الذى غادره فى الصباح .. و كم من المشاريع بنت فى رأسى و كم من الأحلام التى كان يخيل إلىّ أنها ماتت فى نفسى وجدتها تنتقض و تملأ على خيالى .. عاودنى الأمل .. أحسست و كأنى كنت فعلا ميتا و عدت إلى الحياةبطريقة ما و كأن الموت هو أن نسجن أنفسنا داخل حياة متشابهة واحدة و كأننا نموت حين نكف عن ادخال الجديد فى حياتنا الموت هو أن ندور فى دائرة واحدة مهما كانت تلك الدائرة .. حقيقة أحسست و كأنى تناولت لتوى جرعة حياة ضخمة أصبحت بعدها أكثر قوة و أكثر حرية و تفاؤلا و إنسانية و أقوى إرادة و كل هذا لأنى فقط عدت ذات مرة إلى بيتى من شارع آخر غير الذى تعودن عليه.
ماذا يحدث لو انطلقنا
ماذا يحدث إذن لو أن يوسف إدريس عاد إلى بيته كل يوم من شارع جديد؟ .. بل ماذا يحدث لو أنه انطلق يحمل حقيبته وراء ظهره و طاف الدلتا كلها أو الصعيد أو طاف ببلاد شمال أفريقيا أو عبر البحر المتوسط إلى اليونان و منها إلى يوغسلافيا ثم إلى النمسا ثم إلى إيطاليا ثم عاد مرة أخرى إلى القاهرة .. بل ماذا يحدث لو أنه فعل مثلما فعل الشاب المصرى عبد الرحمن البيض الذى طاف بكل مدن مصر و قراها ثم طاف بكل بلاد افريقيا ثم طاف بكل شبه الجزيرة العربية و الآن يطوف كل بلاد أوروبا؟إن كل رحلة هى شهادة ميلاد جديدة للإنسان و لهذا نقول أن الشباب لابد أن يتعود السفر والترحال يواجه الخطر .. يتعود المغامرة .. يبحث عن الجديد .. يجدد حياته .. و ينبه حواسه يتعلم أشياء جديدة و يلتقى بأصدقاء جدد.
الساعة أكثر من ساعة
الدوافع التى تحركنا للسفر كثيرة لكنها تلتقى عند معنى واحد أن نعيش حياتنا بأكبر عمق ممكن و أكبر اتساع ممكن .. فى الرحلات يصبح يومنا أكثر من يوم و الساعة أكثر من ساعة لأن الخبرة التى نتعلمها فيها أكبر عشرات المرات مما لو كنا قضيناها فى البيت أو النوم .. أو الكسل.
و الرغبة فى أن نعيش حياتنا بعمق و اتساع و أن نتعلم هى التى دفعت الفتاة المصرية إلى أن تنافس الشاب و تخرج هى الأخرى إلى بلاد أوروبا لترى و تسمع وتتعلم و تكتسب تجربة جديدة.. لقد أصبحت الحركة و السفر و الانتقال أهم سمات إنسان العصر الحديث .. إنسان الفضاء .. و مواجهة المجهول و الانتصار عليه