قضيت أياما في لندن قررت منذ البداية أن تكون مختلفة عن المرات السابقة, لم أحاول لقاء أي مسئول علي أي مستوي, ولم أكن أتابع زيارة رسمية أو غير رسمية, وتركت نفسي علي هواها.. زرت المتاحف والمكتبات, سرت في حدائق هايد بارك وريجينت بارك وسان جيمس بارك وجرين بارك.
واستمتعت بساعات من الرياضة والهواء النقي, واستمعت إلي الناس العاديين.
ومن الواضح أن الأزمة الاقتصادية العالمية أكبر مما كان متصورا وأنها لن تنتهي بسرعة, فالشكوي من ارتفاع الأسعار علي كل لسان, الغلاء يخنق الفقراء, والحكومة الجديدة قررت اتخاذ إجراءات سوف تزيد من وطأة الحياة علي الجميع, الأزمة الاقتصادية جعلت حكومة تحالف المحافظين والأحرار الليبراليين تقرر خفض النفقات العامة ابتداء من العام المالي الحالي ولمدة خمس سنوات دون مراعاة لتأثير ذلك الخفض علي التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية.
وأيضا قررت زيادة ضريبة المبيعات( ضريبة القيمة المضافة) والضريبة علي الدخل العام, والاستغناء عن120 ألف موظف في الحكومة والقطاع العام, وتجميد الرواتب, وعدم صرف العلاوة السنوية للعاملين في الحكومة والقطاع العام لمدة سنتين.
وأدت هذه الإجراءات إلي إثارة القلق وتحرك النقابات والاتحادات العمالية, وهددت اتحادات العمال بالإضراب العام والعصيان المدني احتجاجا علي هذه السياسة, ووصفت الحكومة الجديدة بأنها حكومة مليونيرات لا تشعر بالناس ولا تعمل إلا لمصلحة القطط السمان, ودافع نائب رئيس الوزراء( الليبرالي) عن سياسة الحكومة بأن هذا الخفض في الميزانية هو الوسيلة الوحيدة لمعالجة العجز في الميزانية, ولا نريد أن نؤجل حل المشكلة لأن تأجيلها سيجعل الأمور أسوأ, وكرر ذلك أمام مؤتمر حزب الأحرار الديمقراطيين في ليفربول, وقال: نستطيع أن نسير في إصلاح الميزانية بخطوات أيضا, ولكن ذلك سيزيد المشكلة وكل يوم نتجاهل فيه المشكلات تزداد تعقيدا وتزداد الصعوبة في حلها, ووعد بحل كامل للأزمة الاقتصادية في عام2015 مع موعد الانتخابات المقبلة.
وواجه قادة الحزب الليبرالي الديمقراطي اتهامات من أعضائه بأنهم يتصرفون بديكتاتورية ويتجاهلون آراء ومصالح القاعدة خصوصا بزيادة الفائدة علي قروض المساكن وزيادة الضرائب, وقيل في هذا المؤتمر إن الحكومة لن تستطيع أن تقرر وتعمل وحدها, بينما يعارض الناس سياستها, وقال رئيس اتحاد عمال التجارة: إن هذه السياسة ستؤدي إلي زيادة الجرائم, وستجعل بريطانيا بلدا أكثر إظلاما يشعر فيه الناس بالخوف.
وقال رئيس اتحاد عمال النقل إن هذه السياسة ستعيد أيام ثاتشر وليس أمامنا إلا العصيان المدني كما حدث في أعوام74 و78و79و84 حيث توقف العمل حتي في المستشفيات, وملأت القمامة الطرقات, ولا تستطيع الحكومة تجاهل اتحادات العمال التي تضم في عضويتها7 ملايين, وبالفعل نفذ عمال المترو إضرابا لمدة يومين, وامتلأت شوارع لندن بالرجال والسيدات والأطفال يسيرون علي أقدامهم, واستخدم المئات الدراجات, وكانت مأساة.. وبالمناسبة انتشرت الدراجات في لندن هذا العام, ففي كل حي أكثر من مكان تجمع للدراجات, وكل من لديه بطاقة اشتراك يضع البطاقة في آلة فتفتح له قفل دراجة وتسجل الساعة, ويمكنه أن يعيد الدراجة في أي موقع, وبمجرد وضع الدراجة يغلق القفل عليها ويسجل موعد وصولها إلكترونيا, وتخصم القيمة من الرصيد.
والغريب أني في زيارتي الأخري إلي بكين لاحظت أن الدراجات التي كانت تملأ الشوارع بالآلاف أصبحت أقل مما كانت عليه وازداد عدد السيارات, وفي لندن وجدت الدراجات أكثر كثيرا جدا حتي تكاد تتحول إلي وسيلة مواصلات رخيصة وآمنة, فضلا عن أنها رياضة أيضا. وأعلن أن إضراب المترو تسبب في خسائر تزيد علي48 مليون دولار في اليوم, أما إضراب القطارات فهو أسوأ.. وإذا نفذ المعلمون تهديدهم بالإضراب فسيضطر ملايين الآباء والأمهات للانقطاع عن أعمالهم والبقاء مع أطفالهم في البيوت.. والحكومة أعلنت أنها تحاول التفاهم مع اتحادات العمال لتفادي الصدام.. لكن خفض الميزانية بدأ تنفيذه وفرض علي معظم الجهات الحكومية خفض ميزانياتها بنسبة25% لمدة خمس سنوات.
وفي برنامج تليفزيوني في الـ بي.بي.سي توقع المشاركون أن تخسر الحكومة الجديدة هذه المعركة, وقالوا إن هذه الحكومة قلبت الموازين, فقد كان الليبراليون في العادة يشاركون حزب العمال في الحكم, وهذا هو المنطقي للتقارب الأيديولوجي بينهما, ولكن الحكومة الحالية يشارك فيها الليبراليون مع المحافظين وهما علي طرفي نقيض ـ
هكذا رأيت لندن ورأيت حكومتها تواجه العاصفة بعد شهرين فقط من احتفالاتها بالوصول إلي السلطة!