أيام في لندن‏ 1

قضيت أياما في لندن قررت منذ البداية أن تكون مختلفة عن المرات السابقة‏,‏ لم أحاول لقاء أي مسئول علي أي مستوي‏,‏ ولم أكن أتابع زيارة رسمية أو غير رسمية‏,‏ وتركت نفسي علي هواها‏..‏ زرت المتاحف والمكتبات‏,‏ سرت في حدائق هايد بارك وريجينت بارك وسان جيمس بارك وجرين بارك‏.

‏ واستمتعت بساعات من الرياضة والهواء النقي‏,‏ واستمعت إلي الناس العاديين‏.‏

ومن الواضح أن الأزمة الاقتصادية العالمية أكبر مما كان متصورا وأنها لن تنتهي بسرعة‏,‏ فالشكوي من ارتفاع الأسعار علي كل لسان‏,‏ الغلاء يخنق الفقراء‏,‏ والحكومة الجديدة قررت اتخاذ إجراءات سوف تزيد من وطأة الحياة علي الجميع‏,‏ الأزمة الاقتصادية جعلت حكومة تحالف المحافظين والأحرار الليبراليين تقرر خفض النفقات العامة ابتداء من العام المالي الحالي ولمدة خمس سنوات دون مراعاة لتأثير ذلك الخفض علي التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية‏.‏

وأيضا قررت زيادة ضريبة المبيعات‏(‏ ضريبة القيمة المضافة‏)‏ والضريبة علي الدخل العام‏,‏ والاستغناء عن‏120‏ ألف موظف في الحكومة والقطاع العام‏,‏ وتجميد الرواتب‏,‏ وعدم صرف العلاوة السنوية للعاملين في الحكومة والقطاع العام لمدة سنتين‏.‏

وأدت هذه الإجراءات إلي إثارة القلق وتحرك النقابات والاتحادات العمالية‏,‏ وهددت اتحادات العمال بالإضراب العام والعصيان المدني احتجاجا علي هذه السياسة‏,‏ ووصفت الحكومة الجديدة بأنها حكومة مليونيرات لا تشعر بالناس ولا تعمل إلا لمصلحة القطط السمان‏,‏ ودافع نائب رئيس الوزراء‏(‏ الليبرالي‏)‏ عن سياسة الحكومة بأن هذا الخفض في الميزانية هو الوسيلة الوحيدة لمعالجة العجز في الميزانية‏,‏ ولا نريد أن نؤجل حل المشكلة لأن تأجيلها سيجعل الأمور أسوأ‏,‏ وكرر ذلك أمام مؤتمر حزب الأحرار الديمقراطيين في ليفربول‏,‏ وقال‏:‏ نستطيع أن نسير في إصلاح الميزانية بخطوات أيضا‏,‏ ولكن ذلك سيزيد المشكلة وكل يوم نتجاهل فيه المشكلات تزداد تعقيدا وتزداد الصعوبة في حلها‏,‏ ووعد بحل كامل للأزمة الاقتصادية في عام‏2015‏ مع موعد الانتخابات المقبلة‏.‏

وواجه قادة الحزب الليبرالي الديمقراطي اتهامات من أعضائه بأنهم يتصرفون بديكتاتورية ويتجاهلون آراء ومصالح القاعدة خصوصا بزيادة الفائدة علي قروض المساكن وزيادة الضرائب‏,‏ وقيل في هذا المؤتمر إن الحكومة لن تستطيع أن تقرر وتعمل وحدها‏,‏ بينما يعارض الناس سياستها‏,‏ وقال رئيس اتحاد عمال التجارة‏:‏ إن هذه السياسة ستؤدي إلي زيادة الجرائم‏,‏ وستجعل بريطانيا بلدا أكثر إظلاما يشعر فيه الناس بالخوف‏.‏

وقال رئيس اتحاد عمال النقل إن هذه السياسة ستعيد أيام ثاتشر وليس أمامنا إلا العصيان المدني كما حدث في أعوام‏74‏ و‏78‏و‏79‏و‏84‏ حيث توقف العمل حتي في المستشفيات‏,‏ وملأت القمامة الطرقات‏,‏ ولا تستطيع الحكومة تجاهل اتحادات العمال التي تضم في عضويتها‏7‏ ملايين‏,‏ وبالفعل نفذ عمال المترو إضرابا لمدة يومين‏,‏ وامتلأت شوارع لندن بالرجال والسيدات والأطفال يسيرون علي أقدامهم‏,‏ واستخدم المئات الدراجات‏,‏ وكانت مأساة‏..‏ وبالمناسبة انتشرت الدراجات في لندن هذا العام‏,‏ ففي كل حي أكثر من مكان تجمع للدراجات‏,‏ وكل من لديه بطاقة اشتراك يضع البطاقة في آلة فتفتح له قفل دراجة وتسجل الساعة‏,‏ ويمكنه أن يعيد الدراجة في أي موقع‏,‏ وبمجرد وضع الدراجة يغلق القفل عليها ويسجل موعد وصولها إلكترونيا‏,‏ وتخصم القيمة من الرصيد‏.‏

والغريب أني في زيارتي الأخري إلي بكين لاحظت أن الدراجات التي كانت تملأ الشوارع بالآلاف أصبحت أقل مما كانت عليه وازداد عدد السيارات‏,‏ وفي لندن وجدت الدراجات أكثر كثيرا جدا حتي تكاد تتحول إلي وسيلة مواصلات رخيصة وآمنة‏,‏ فضلا عن أنها رياضة أيضا‏.‏ وأعلن أن إضراب المترو تسبب في خسائر تزيد علي‏48‏ مليون دولار في اليوم‏,‏ أما إضراب القطارات فهو أسوأ‏..‏ وإذا نفذ المعلمون تهديدهم بالإضراب فسيضطر ملايين الآباء والأمهات للانقطاع عن أعمالهم والبقاء مع أطفالهم في البيوت‏..‏ والحكومة أعلنت أنها تحاول التفاهم مع اتحادات العمال لتفادي الصدام‏..‏ لكن خفض الميزانية بدأ تنفيذه وفرض علي معظم الجهات الحكومية خفض ميزانياتها بنسبة‏25%‏ لمدة خمس سنوات‏.‏

وفي برنامج تليفزيوني في الـ بي‏.‏بي‏.‏سي توقع المشاركون أن تخسر الحكومة الجديدة هذه المعركة‏,‏ وقالوا إن هذه الحكومة قلبت الموازين‏,‏ فقد كان الليبراليون في العادة يشاركون حزب العمال في الحكم‏,‏ وهذا هو المنطقي للتقارب الأيديولوجي بينهما‏,‏ ولكن الحكومة الحالية يشارك فيها الليبراليون مع المحافظين وهما علي طرفي نقيض ـ

هكذا رأيت لندن ورأيت حكومتها تواجه العاصفة بعد شهرين فقط من احتفالاتها بالوصول إلي السلطة‏!‏


 


 


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف