التليفزيون وثقافة العنف

إذا أردنا أن نتعرف علي العوامل التي شاركت في تكوين ثقافة العنف في المجتمع المصري فلابد أن نبحث اولا عن دور التليفزيون وقد صار من أهم الوسائل لتعليم القيم واسلوب الحياة والتعامل مع الآخرين‏.‏


والبحوث الاجتماعية تدل علي أن تأثير التليفزيون كبير علي كل الفئات الصغار والكبار‏..‏ المثقفين والأميين‏.‏ مع اختلافات في درجة التأثر‏.‏

ويأتي بعد التليفزيون في تشكيل الشخصية تأثير الأسرة والمدرسة والاصدقاء والمؤسسات الدينية‏,‏ كما دلت الأبحاث علي ان الأطفال يفضلون مشاهدة الأفلام العربية والأجنبية وأفلام الرسوم المتحركة‏(‏ الكرتون‏)‏ التي تعرض مشاهد العنف والمعارك والبطولات الخارقة والشخصيات التي تفرض ارادتها علي الآخرين‏,‏ وغالبية الأطفال يشاهدون بمفردهم مايفضلونه من برامج في القنوات الفضائية مع انشغال الآباء والأمهات في أعمالهم داخل المنزل أو خارجه مما يعني أنهم يشاهدون دون رقابة‏,‏ مشاهد تؤثر في تكوينهم وسلوكهم نحو العنف والعدوان‏,‏ والخروج علي القانون‏.‏ والأطفال يتوحدون مع نموذج البطل الذي يتميز بالقوة ويمارس العنف‏,‏ ويحاولون تقليد هذا النموذج حتي عندما يكبرون‏,‏ مع ملاحظة ان الأفلام الغربية تقدم صورا من العلاقات لاتتفق مع التقاليد والقيم المصرية والعربية وتعكس السلوك الذي يؤمن بتقديم المصلحة الشخصية علي المصلحة الجماعية وغير ذلك من القيم ومعظم البرامج وأفلام الرسوم المتحركة الموجهة للأطفال تعكس في مضمونها الثقافة الغربية‏,‏ ولاتزال برامج الأفلام العربية الخاصة بالأطفال محدودة العدد وتفتقر إلي عنصر الابهار والتكنولوجيا العالية التي تميز الأفلام الأجنبية‏.‏ وقد دلت الابحاث ان الأطفال الذين يدرسون في مدارس خاصة يفضلون الأفلام والبرامج الأجنبية ودلت أيضا علي ان الآباء لايتدخلون في تحديد أوقات المشاهدة ولا في اختيار نوعية ما يشاهده أبناؤهم‏.‏

وفي بحث ميداني للدكتورة مها الكردي الأستاذ بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية عن تأثير القنوات الفضائية ـ والتليفزيون عموما ـ في تكوين السلوك العدواني لدي صغار السن من الذكور والاناث بين‏9‏ و‏15‏ سنة‏,‏ ومدي اكتسابهم سلوكيات سلبية مثل استسهال الاعتداء علي الآخرين‏,‏ والميل للسيطرة‏,‏ وسرعة الغضب وعدم التحكم في الانفعالات وردود الافعال والتعبير الانفعالي غير المتزن في الواقف المثيرة للغضب‏.‏ أوضحت نتائج البحث أن الأطفال الذين يشاهدون الأفلام والتمثيليات التي تتضمن مشاهد العنف هم أكثر عدوانية وبحثا عن الاشياء والمواقف التي تحمل الاثارة والخطورة‏,‏ ويتميزون بسرعة الانفعال وعدم تقبل الآخرين ونسبة كبيرة منهم تعيش في حالة توحد مع شخصية البطل الذي يشاهدونه بما فيه من الاندفاع والتمرد والسيطرة والأطفال يتفاعلون مع ما يشاهدونه ويعيشون في المشاهد ولايتفرجون عليها‏.‏

وكشف البحث عن أن الأسرة التي تستخدم العنف والقسوة في تربية الأبناء تخلق لديهم المبرر لاستخدام العنف هم أيضا‏,‏ كما كشف عن أن الأطفال ـ والكبار ـ يتفاعلون مع مشاهد العنف لأنها تساعدهم علي التخفيف من الشعور بالقلق ومن الاحباطات النفسية‏,‏ وتشد الانتباه بما فيها من ابهار‏,‏ وما تغرسه من انتصار القوة دائما‏,‏ وان التعامل بالعنف هو الوسيلة لتحقيق الأهداف والحصول علي الحق‏,‏ ومن خلال تقمص الطفل للشخصيات التي يعجب بها تتشكل شخصيته‏..‏ ولنا أن نتصور نتائج ادمان الطفل لمشاهدة مجالس تعاطي المخدرات وتناول الخمور‏,‏ والتدخين‏,‏ والعلاقات المحرمة‏,‏ وتفاصيل العمليات التي تنفذها العصابات واساليبها في السرقة والضرب وفرض سيطرتها علي الآخرين‏.‏

وفي بحث آخر للدكتورة آمال كمال أن الأطفال والشباب يتولد لديهم العدوان من خلال متابعتهم مشاهد العنف والقتل والدماء والاشلاء والانقاض في الأراضي الفلسطينية وفي العراق‏,‏ ومعاناة الشعبين من بشاعة قوات الاحتلال‏.‏ ويتأثر كل من يشاهد صور بكاء النساء والأطفال‏,‏ واشلاء القتلي‏,‏ وتدمير البيوت علي اصحابها‏,‏ والجنازات‏,‏ والمقابر الجماعية‏,‏ واغتصاب الأراضي من اصحابها‏,‏ فرض الأمن الواقع بالقوة‏..‏ هذه المشاهد ـ مع التكرار وترسب تأثيراتها النفسية مع الوقت‏,‏ تحدد رؤية الأطفال والشباب ـ وحتي الكبار أيضا ـ للواقع‏,‏ وتحدد تصوراتهم نحو أنفسهم ونحو الآخرين‏,‏ وتحدد أيضا توقعاتهم ـ ومخاوفهم ـ لما يمكن أن تسفر عنه الأوضاع الحالية‏..‏ ومحصلة ذلك أن أحداث العنف التي يعايشها الناس في الواقع أو في الأفلام والبرامج هي المسئولة عن موجات الغضب والاحتجاج وعن ثقافة العنف التي أصبحت مصدر قلق في المجتمع العربي‏.‏

ولعل الآباء والمسئولين عن التليفزيون والسينما والتعليم يستجيبون لنداءات علماء الاجتماع والسياسة ويدركون ضرورة وضع استراتيجية لبناء ثقافة جديدة غير ثقافة العنف‏.‏

اصوات علماء الاجتماع ترتفع في كل مناسبة للتحذير من خطورة ما يشاهده الصغار من أحداث العنف في الأفلام والتليفزيون مع ملاحظة أن التليفزيون هو اليوم المصدر الأول للمعلومات والمعرفة للصغار والكبار‏,‏ والجميع يقضون الساعات أمام التليفزيون وتأتي الأفلام والتمثيليات في المرتبة الأولي من اهتمامهم‏,‏ ونشرات الاخبار في المرتبة الثانية‏,‏ والبرامج الدينية في المرتبة الثالثة كما تبين من البحث‏.‏

وبعد ذلك تأتي بالترتيب‏:‏ الأغاني والمنوعات‏,‏ والبرامج الرياضية‏,‏ وقد يختلف هذا الترتيب عما يعتقده المسئولون عن التليفزيون‏,‏ وعندما تناول البحث اسباب تفضيل قناة تليفزيونية علي أخري لمشاهدة نشرة الاخبار تأكد أن المشاهد يفضل القناة التي تتميز بالصدق في رواية وتحليل الأخبار‏,‏ وبالسرعة في متابعة الاحداث الجارية وتقديم تغطية شاملة وتفصيلية للأحداث‏,‏ وتأكد أن الاهتمام بنشرات الاخبار يزداد في أوقات الأزمات والحروب واحداث العنف والإرهاب‏.‏

أما عن البرامج الدينية فقد تبين من البحث أن الأطفال والشباب هم الأكثر تصديقا وتأثيرا بما يسمعونه في هذه البرامج‏,‏ ولايستطيعون التمييز بين الفكر الديني الصحيح والفكر المنحرف‏,‏ وبعض البرامج تقدم فتاوي وآراء متشددة تؤدي إلي بلبلة عقول هؤلاء الصغار وهم في مرحلة التشكيل الوجداني‏.‏ وهذه القضايا تفرض علي الحكومات وضع استراتيجية للإعلام تساعد علي البناء‏.


 



جميع الحقوق محفوظة للمؤلف