المصريون وثقافة العمل الجماعي

لماذا يقال إن المصري عندما يعمل خارج مصر يتميز بالالتزام والانضباط واحترام النظام ويتفوق في عمله‏,‏ ولا يكون كذلك عندما يعمل في مصر‏.

,‏ ولماذا يقال إن المصري تتفجر طاقة الإبداع لديه في العمل الفردي ولايكون كذلك عندما يعمل ضمن فريق؟ ولماذا يشار دائما الي الشخصية الآسيوية علي أنها هي النموذج لثقافة العمل الجماعي‏,‏ فالفرد في اليابان مثلا يشعر أنه جزء من الجماعة التي ينتمي اليها ويتفاني في العمل داخلها ولايراوده الشعور بأن مصلحته يمكن ان تختلف عن مصلحة الجماعة‏,‏ بينما يلاحظ الباحثون الاجتماعيون عكس ذلك علي الشخصية المصرية والعربية عموما؟

هذه القضية شغلت كثيرا من أساتذة علم الاجتماع‏,‏ وكانت ضمن الموضوعات التي ناقشها المؤتمر الأخير للمركز القومي للبحوث الاجتماعية‏,‏ وأشار الدكتور كامل كمال الخبير بالمركز إلي ان تحليل مضمون الأمثال الشعبية المعبرة عن الروح المصرية وعن الثقافة السائدة بين المصريين تؤكد النسبة الأكبر منها علي النزعة الفردية وعلي الخلاص الفردي حصيرة ملك ولا بيت شرك بينما الأمثال المعبرة عن الروح الجماعية هي النسبة الأقل إيد لوحدها ماتسقفش‏,‏ وفي بحث للدكتورة عائشة شكري ان انتاج العامل والموظف لا يتناسب مع ساعات العمل وأن الفكرة السائدة لدي العاملين انهم الفئة المظلومة وأن بعض الفئات تمكنت من تحقيق ثروات كبيرة في زمن قصير من أنشطة طفيلية لا تضيف الي الناتج القومي مثل السمسرة والمضاربة في الأراض والعقارات‏,‏ وحتي العائدون من الخارج اتجهوا بمدخراتهم الي انشطة تزيد الدخل بأقل مجهود شقق مفروشة ـ شهادات استثمار ـ عائدات الودائع ومعني ذلك انخفاض قيمة العمل وبذل الجهد وأن الأفضل انتهاز الفرصة للكسب السريع الرشوة ـ العمولات ـ الاتجار بالوظيفة أو المنصب أو الصفة‏.‏

وكشفت دراسة للدكتور محمد عبد النبي ان غياب الروح الجماعية تولد نتيجة للشعور بعدم العدالة في توزيع عائد العمل الجماعي‏,‏ وان فريقا يتحمل الأعباء ويحصل آخرون علي الجزء الأكبر من العائد‏,‏ وليس غريبا ان يردد الجميع الحديث عن ايمانهم بالعمل الجماعي بينما هم لايؤمنون به وفي الحقيقة هذا يقودنا الي صفة أكثر عمومية هي التناقض بين القول والفعل وبين الظاهر والباطن‏,‏ في الوش مراية وفي القفا سلاية ـ أي شوكة‏.‏

وفي بحث للدكتورة هالة رمضان تبين غياب روح التعاون بين الزملاء العاملين في القطاع الحكومي وبالتحليل ظهر أن ذلك بسبب الفساد الاداري والمحسوبية‏,‏ ووجود تكتلات في كل موقع تقريبا تعمل علي تحقيق مكاسب شخصية لها ولا ترعي مصلحة العمل مما يعمق لدي الآخرين الشعور بالاحباط ويشعل العداوة‏,‏ بالاضافة الي ما هو معروف من الضغوط النفسية التي يعاني منها موظف الحكومة بسبب غلاء المعيشة وانخفاض الدخل وصعوبة تدبير احتياجاته واحتياجات أسرته‏..‏ ومن الشائع ان تتبع بعض القيادات الإدارية سياسة فرق تسد بحيث يستمد الرئيس قوته من تزايد المشكلات وتدخله لحلها‏,‏ وحتي في المشروعات الصغيرة فإن سيادة الروح الفردية تمنع من تجمع عدد من أصحاب هذه المشروعات للعمل معا في إطار مشروع مشترك يمكن ان يحقق نتائج أفضل من المشروع الصغير الفردي‏.‏

من أين جاءت هذه الروح الفردية؟ في بحث الدكتور كامل كمال ان التربية في الأسرة هي السبب الأول لأن الأسرة تهتم بغرس القيم الدينية علي أنها أداء الفرائض والالتزام بالاخلاق الفاضلة مثل الصدق والأمانة والشرف ولا تغرس قيمة الايمان بالجماعة ان الله مع الجماعة وتعاونوا علي البر والتقوي ولا تعاونوا علي الاثم والعدوان والأيمان بالاتقان إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه وقل اعملوا فسيري الله عملكم‏..‏ والمقررات الدراسية تركز علي القيم الدينية والقيم السياسية التي تعمق في عقول النشء قيم العمل الفردي وان تقدم المجتمع وصنع التاريخ من عمل أفراد وليس من عمل الجماعة أو من عمل الشعوب‏.‏ ومناخ العمل الحكومي يسمح بضياع المسئولية ونمو الاتكالية واللامبالاة‏,‏ وإن كانت هناك نماذج ناجحة للعمل الجماعي مثل مشروع السد العالي إلا أن قيمة العمل الجماعي لم تتبلور كما تبلورت في حرب اكتوبر‏73,‏ حين كان التعاون والتفكير والعمل الجماعي من أهم عوامل النصر‏,‏ وهذا ما جعل الباحثين يرون ان الشخصية المصرية تحرص علي الاندماج في الجماعة في أوقات الأزمات أو المناسبات السعيدة الموت‏,‏ المرض‏,‏ الأفراح‏,‏ والحج‏,‏ والانجاب‏..‏ الخ‏(‏ وقد ابتدع المصريون الجمعية لحل أزماتهم المالية بجمع أقساط شهرية من كل فرد من الجماعة ويقبض كل واحد قيمتها الاجمالية لمرة واحدة‏,‏ ولكن التحول الاقتصادي والاجتماعي السريع غير المنظم أظهر أنماطا جديدة من السلوك مثل التباعد الاجتماعي وتزايد الفردية‏.‏

والقضية تستحق الاهتمام وتدعو الي الاسراع بالعمل لاستعادة الروح الجماعية وهذه مسئولية المدرسة والثقافة والإعلام والأحزاب والمسئولين عن صناعة العقول‏.



 



جميع الحقوق محفوظة للمؤلف