المصريون في المرآة ‏4

الدراسات عن الشخصية المصرية لم تخضع للنقد والمراجعة‏,‏ وبعضها صدر منذ أكثر من مائة عام‏,‏ والبعض يردد ما فيها دون اعتبار للتغيرات التي طرأت علي المجتمع المصري وتأثيرها علي حياة وسلوك المصريين‏..‏ النخبة والعامة‏..‏ الشباب والشيوخ‏..‏ الفقراء والأغنياء‏..‏ الأميين والمتعلمين‏...‏الخ‏.


وبعض هذه الدراسات صادرة عن أفكار مسبقة‏,‏ وبعضها يعكس اتجاها عنصريا متحيزا مثل دراسة الانثربولوجي الأمريكي ذي النزعة الصهيونية رافائيل باتاي عن العقل العربي وأصدر أحكاما علي الشخصية العربية والمصرية بأنها جامدة متمسكة بالماضي وبالتقاليد القديمة ومستسلمة للواقع‏,‏ وليس لديها الرغبة والقدرة علي التغيير‏,‏ وليس لديها إحساس بقيمة الوقت‏,‏ وغير قادرة علي المبادرة‏,‏ وتقبل القدر والمكتوب وتتميز بالانفصال بين القول والفعل‏,‏ والازدواج العاطفي‏,‏ والشعور بالنقص‏...‏إلخ‏.‏ وقد أفاض الدكتور سمير نعيم أستاذ علم الاجتماع في بيان الخطأ المنهجي في هذه الدراسة في تعميمها لهذه الصفات علي كل العرب وكل المصريين في كل الأزمان والمراحل التاريخية‏,‏ فضلا عما هو معروف عن رافائيل باتاي من انحيازه وكراهيته للعرب‏.‏

ومن ناحية أخري‏,‏ هناك دراسات انتهت إلي أن أهم سمات الشخصية المصرية هي‏:‏ التدين والايمان بالآخرة‏,‏ والصبر‏,‏ والاعتقاد في الخرافات‏,‏ وهذا ما ذكره ادوارد لين في كتابه المشهور عن عادات المصريين وأخلاقهم في عام‏1828,‏ أما اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني فقال عن المصريين في كتابه مصر الحديثة عام‏1908‏ إن المصري عنيد‏,‏ ولا يقبل الظلم‏,‏ ومتواكل‏,‏ ولا يحرص علي نظافة الشارع كما يحرص عليها في بيته‏,‏ وتسيطر عليه الروح الفردية‏..‏ وفي كتاب وصف مصر الذي أعده علماء الحملة الفرنسية وصفوا المصريين بأنهم متدينون‏,‏ ويتميزون بالفهلوة وطاعة الحكام وعلاقتهم بالسلطة تشبة علاقة أهل الحارة بالفتوة‏..‏ والغريب أن بعض الباحثين وصفوا المصريين بأنهم شعب حزين‏,‏ وبعضهم الآخر وصفوهم بأنهم شعب عاطفي مرح حاضر النكتة‏,‏ يبالغ في الصخب في الأفراح‏,‏ ولديه شعور راسخ بالظلم وبالانكسار‏,‏ علي المستوي الفردي وعلي المستوي الجماعي‏,‏ وفي دراسة للدكتور محمد المهدي أستاذ الطب النفسي أن الشخصية المصرية تتميز بالبساطة‏,‏ والمرح‏,‏ والهدوء والصبر وطول البال‏,‏ وحب الحياة‏,‏ والحرص علي الاستقرار‏.‏

ولكن الدكتور سمير نعيم يري أن الشخصية المصرية الحقيقية تتجلي في حرب أكتوبر‏1973‏ التي أظهرت أن المصري قادر علي استيعاب التكنولوجيا الحديثة‏,‏ ولديه الإصرار علي تغيير الواقع الذي يفرض عليه‏,‏ وقادر علي العمل في أصعب الظروف لتحقيق الهدف‏,‏ ويمكنه التعامل مع الواقع دون مبالغة أو استهانة‏,‏ والايمان يعطيه قوة وشعورا بالثقة بالنفس‏..‏

هكذا نجد صورة المصريين تختلف أشد الاختلاف باختلاف المرآة واختلاف الباحث الذي يصف لنا الصورة كما يراها في غياب دراسة علمية ميدانية بالمنهج العلمي الصحيح من حيث تحديد جمهور البحث وطريقة اختيار العينة التي يجري عليها البحث‏,‏ وألا تكون للبحث أهداف أيديولوجية أو سياسية‏,‏ وأن يرصد سمات الشخصية في المواقف المختلفة‏,‏ فحين يقال إن المصري متدين فهل هو كذلك في كل أحواله في علاقاته داخل الأسرة‏,‏ وفي العمل‏,‏ وفي الحياة السياسية‏,‏ ومع الجيران والأصدقاء‏...‏الخ؟

وهل يتفق المصري مع غيره في المجتمعات الأخري في سمات عامة أم أنه ينفرد بصفات خاصة به لا يشاركه فيها أحد في العالم؟‏..‏ ومن المهم أن تكون دراسة الشخصية القومية في تطورها في المراحل التاريخية المختلفة‏.‏ وينبهنا الدكتور سمير نعيم إلي الاختلافات في تكوين الشخصية والقيم الاجتماعية والأخلاقية باختلاف الطبقات‏,‏ ويلاحظ شيوع القيم التي تنشرها الطبقة المسيطرة‏,‏ والمثال علي ذلك أن دعاة الانفتاح الاقتصادي والخصخصة وإطلاق الحرية لرأس المال‏,‏ ينشرون الأفكار والقيم التي تدعم هذا الاتجاه بكل الوسائل‏,‏ وفي عصر سابق كان دعاة الاشتراكية يروجون للقيم التي تدعم اتجاههم‏,‏ وفي الحالين استخدم الدين للترويج للاشتراكية‏,‏ ثم للترويج للرأسمالية‏,‏ كما استخدم الدين سلاحا للحرب‏,‏ ثم ترويجا لثقافة السلام‏.‏

عالم الاجتماع الدكتور سمير نعيم يحذر منذ عام‏1983‏ من أن القيم التي روج لها الانفتاحيون ستؤدي إلي زيادة حدة الأزمات‏,‏ وتعوق عملية التنمية في النهاية‏,‏ لأنها قيم تشجع علي الكسب السريع والسهل وليس علي العمل المنتج وبذل الجهد فيه‏,‏ وعلي الاستهلاك وليس علي الادخار والاستثمار‏,‏ وعلي الاهتمام باللحظة الراهنة وليس بالمستقبل البعيد والتخطيط له‏,‏ وعلي السلبية وقبول الأمر الواقع وتعميق مبدأ الغاية تبرر الوسيلة‏,‏ واستباحة الملكية العامة‏,‏ وإعلاء المصلحة الشخصية علي المصلحة العامة‏,‏ وقد يكون لهذه القيم بريق خاص يجذب الناس ولكنهم سوف يكتشفون خطورتها لاحقا‏.‏

والخلاصة‏..‏ مطلوب عمل‏..‏ عمل حقيقي وليس مجرد كلام‏..‏ يحتاج المصريون إلي العودة إلي شعار الإدارة بالأهداف بدلا من الإدارة بالتصريحات السائد الآن‏


 


 


 


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف