كان في مصر دائما اسلام واحد ونمط واحد للتدين قائم علي الاعتدال والتسامح, وقبول الاختلاف في الفقه والفكر, وفي المذاهب والعقائد, ويسلم بأن الله وحده هو الذي يحكم بين الناس يوم القيامة.
فيما يختلفون فيه.. هذا النمط الواحد للتدين طرأ عليه تغير كبير, نتيجة لعوامل وقوي داخلية وخارجية. فأصبحت لدينا انماط متعددة للتدين مختلفة بل ومتناقضة, وتضاءلت مساحة التسامح حتي كادت تتلاشي.. ماذا حدث ؟
عالم الاجتماع الراحل الدكتور عبد الباسط عبد المعطي كان يري أن المفاهيم والمعتقدات الدينية التي استجدت تمت صياغتها والترويج لها لتحقيق مصالح واهداف قوي اجتماعية تغلغلت في المؤسسات التعليمية والاعلامية وفي المؤسسات الدينية أيضا, وانتجت ما يمكن تسميته الوعي الديني الزائف الذي يبرر توظيف الدين لخدمة أهداف سياسية واقتصادية, وهذا الوعي الزائف أحادي الجانب, يدعي أنه الذي يملك الحقيقة المطلقة وغيره في الضلال والكفر, ويسعي الي اقناع العامة بأنه هو فقط الذي يعرف مراد الله ويملك الحق في أن يتحدث باسمه, وأنه له رسالة كلفه الله بها يسعي الي تحقيقها.. هذا التيار تسبب في خلط المفاهيم وتصوير الباطل حقا والحق باطلا, وجعل الدين أداة يستخدمها في السياسة وفي مناوراته وأطماعه, دون اعتبار لمكانة الدين التي تسمو فوق السياسة وفوق الأطماع.
وفي الساحة الدينية نجد تيارا آخر يركز في خطابه علي أمور تبعد الناس عن القضايا الأساسية للدين ولا يتحدث إلا عن خضوع الزوجة لزوجها, وحق الزوج في تأديبها وواجب المجتمع في حرمانها من الخروج والعمل ومن حقوق الانسان والمشاركة الاجتماعية والسياسية واعتبار كل ذلك من الفسوق والعصيان ومن علامات الساعة, قضايا هذا التيار من أمثال كيف يكون عذاب القبر وهل يتعرف الميت علي من يزور قبره, وهل يجوز وضع الزهور علي القبور, او يجوز الدعاء في الصلاة, او يجوز الصلاة اذا لم يرفع المصلي يديه عند تكبيرة الاحرام, وكيف يعذب الله علي لطم الخدود وعلي دخول المسجد بالقدم اليسري أو الخروج منه بالقدم اليمني, وكيف ستقوم القيامة وعلاماتها الصغري والكبري, وغير ذلك من مسائل العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر. والخطر من هذا التيار أنه يدعو الي إقصاء الآخر الديني ويعتبر ذلك من علامات الايمان! ويدعم هذا التيار ظهور الدعاة الجدد وهم من الهواة المتطوعين يتميزون في ملابسهم واسلوبهم في التعامل فيما بينهم ومع غيرهم, وفي استخدامهم الفاظا وتعبيرات خاصة تدل عليهم. منهم من خرج من عباءة التيارات الاسلامية المختلفة, خاصة الاخوان يحفظون ويرددون مقتطفات من العلوم والمعارف الدينية منتزعة من سياقها دون معرفة بمدلولها في الاطار الشامل الذي تمت صياغتها فيه, وهذا ما يسمي التدين المنقوص والغريب أن منهم من يعتنق مفهوما للدين خاصا به ومن تأليفه.
وغالبا ما يكون هذا المفهوم ناتجا عن احباطات شخصية, ولكن كلا من هؤلاء الفتية ينصب نفسه داعية وليس لديه إلا بضعة نصوص وعبارات يرددها ولا يقبل مناقشة فيها.. هؤلاء الدعاة الجدد أو الدعاة الهواة يشتركون مع دعاة التشدد والجمود ويمثلون تيارا واحدا تراه في كل مكان تقريبا.. تيارا يرفض العقل والمنطق والعلم ولم يتعلم المبادئ التي أرساها الفقهاء او علماء الشريعة الكبار عن تغير الأحكام بتغير المكان والزمان, وأن كل شيء حلال إلا ما حرمه الله بنص صريح في القرآن, وأن درء المفاسد مقدم علي جلب المنافع وغير ذلك من المبادئ التي تؤكد أن الاسلام صالح لكل زمان وأحكامه تتناسب مع كل تطور في الفكر وفي الحياة.
ولحسن الحظ لا تزال أغلبية الدعاة وقادة الفكر الديني المستنير في المجتمع المصري لديها الوعي الديني الذي يحيط بالعلوم والمعارف الدينية الأساسية ويؤمنون بضرورة الربط بينها وبين الظروف المتغيرة في المجتمع, ولديهم الوعي التاريخي الذي يجعلهم يفسرون المعلومات الدينية في ضوء تطورها في المراحل المختلفة ويمكنهم استخلاص الدروس منها بعقلية تملك القدرة علي التحليل والنقد والتوصل الي بدائل لتحسين حياة الناس في الحاضر والمستقبل.
لكن الساحة الدينية لا تخلو من فساد هي الأخري, يتمثل في تيار ظهر حديثا يحول الدين الي بزنس ويستغله لتسويق سلع واعلانات ومسابقات دينية ويغري العامة بجوائز الحج والعمرة وكلها وسائل للاسترزاق والتكسب, مثلها مثل تحويل الأماكن المحيطة ببعض المساجد الي أسواق لبيع سلع وبضائع.. تيار متشدد يحكم بالتحريم والكفر علي كل شيء تقريبا سواء في الفكر والفن وكل مظاهر الابتهاج في احتفالات الزواج والميلاد والمناسبات الدينية ويعتبرها بدعة وضلالة ومن يشارك فيها مصيره النار وهذه التيارات الغريبة الوافدة علي المجتمع العربي تستفيد من انتشار الأمية, وقد تمكنت من انشاء جمعيات وزوايا ومستوصفات وتستقطب الفقراء بالمساعدات وأموال الزكاة ولها منابر في قنوات تليفزيونية مصرية وعربية.. اين المؤسسة الدينية الرسمية من كل هذا... سؤال؟!