منذ عشر سنوات صدر لي كتاب في سلسلة اقرأ بعنوان ـ المصريون في المرآة ـ قدمت فيه رصدا لرؤية عدد من كبار المفكرين وعلماء الاجتماع والسياسة للشخصية المصرية في ضوء التحولات الكبري في العالم وفي مصر بطبيعة الحال.
وبعد هذه السنوات العشر عقد منذ أيام مؤتمر المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية لمناقشة نتائج الأبحاث الميدانية التي أجراها العلماء الاجتماعيون عن ـ الشخصية المصرية.
من هنا أري أن هذا المؤتمر الذي عقد برئاسة الدكتورة نجوي خليل رئيسة المركز بتاريخها الطويل في البحث العلمي الاجتماعي, يمكن ان يكون بداية للتفكير الجاد, والعمل الجاد لتنفيذ برنامج للاصلاح الاجتماعي تأخرنا كثيرا في القيام به. في البحث الذي عرضه العالم الاجتماعي الدكتور علي ليلة أن في مجتمعنا أزمة بالنسبة للمسئولية الاجتماعية, وعلاجها بعدم مطالبة الناس بالوفاء بما عليهم من واجبات دون ان يحصلوا علي ما لهم من حقوق, فهذا التوازن بين الحقوق والواجبات هو البداية لإعادة الشعور بالمسئولية الاجتماعية الواقع الذي كشف عنه بحث الدكتور هاني خميس من انتشار ظاهرة الميل الشديد لمخالفة القوانين والتحايل عليها ابتداء من قواعد المرور ـ حتي بعد تشديد العقوبات علي مخالفاتها الي اقصي حد يمكن تصوره ـ وانتهاء بقوانين الضرائب والاسكان والأحوال الشخصية, والشعور العام بعدم جدية القوانين وبانها تطبق علي ناس ولا تطبق علي ناس اخرين وفيها ما يسمح بالاستثناء مما يفقد القانون هيبته ويؤدي الي انهيار القيم وزيادة الجرائم..
وتفسير الدكتور علي الجلبي للتناقضات في الشخصية المصرية في هذه المرحلة انها انعكاسات للتحولات الاجتماعية التي أدت الي حدوث تغييرات في الطبقات الاجتماعية وفي القيم وفي الثقافة السائدة, وهذا ما يفسر التناقضات في قيم وسلوك المصريين, فنجد نموذج الشخصية الايجابية المنتجة الحريصة علي اتقان عملها, ونجد الشخصية الفهلوية التي تفاخر بأنها تلعب بالبيضة والحجر وبأنها قادرة علي ان تقلب الحق باطلا والباطل حقا, ونجد ايضا الشخصية المعبرة عن ثقافة الهبش والبلطجة والتحايل والاستهانة بالقيم, وتجليات هذه الثقافة لا تخفي علي أحد في البزنس والعمل العام كما في الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر والفساد, ولا يغيب عن الدكتور علي الجلبي رصد تأثيرات العولمة علي منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية والدينية وعلي سلوك المصريين, فالعولمة كما جاء في بحث الدكتور خضر أبو قورة ـ غيرت المجتمعات في انحاء العالم.. مجتمعات تفككت وغرقت بنيتها الاجتماعية, ومجتمعات تعرضت للاختراق وتآكلت فيها القيم وتم تشويه هويتها التاريخية, ومجتمعات استسلمت لنفوذ الشركات متعددة الجنسيات ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدولي, ومجتمعات أغلقت أبواب الأمل أمام أبنائها فدفعت الكثير منهم الي الهجرة الشرعية وغير الشرعية. وفقد قطاع من هؤلاء المهاجرين الشعور بالانتماء لوطنهم وبعضهم يحاول اخماد الشعور بالحنين للوطن بإبداء الكراهية والعداء كنوع من التبرير السيكولوجي لحالة الاغتراب, ناهيك عن شعور الاغتراب لدي قطاع من الشباب يعيش في وطنه بلا دور ولا أمل.
وينبه بحث الدكتور محمود عودة أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس الي سمات الشخصية المصرية وهي تتلخص في التصور الهرمي للكون والمجتمع يظهر في المثل الشائع اللي مالوش كبير يشتري له كبير, والمثل الذي يقول العين ماتعلاش علي الحاجب. ولذلك نجد استخدام المصريين لألقاب التعظيم والاحترام مالاتجده في مجتمعات اخري سيادتك ـ سعادتك ـ حضرتك ـ جنابك ـ بك ـ باشا.... الخ هذا التصور الهرمي تطور كحالة للتكيف واتقاء شرور الكبار أما الازدواجية في الشخصية المصرية وربمـا الشخصية العربية عامة فإنها تظهر في اشكال متعددة: التناقض بين الأقوال والأفعال, والتناقض بين القيم والمعتقدات فيما بينها, أما السلبية واللامبالاة فإنها تؤدي وظيفة التكيف مع الواقع حينا ووظيفة المقاومة ايضا, فقد يري المصري ان الايجابية والاقدام يجلبان المتاعب والمشكلات, وقد يواجه بالاستهجان أو بعدم القبول, بينما تفضل المؤسسات الرسمية الشخص السلبي الذي يعمل أذنا من طين وأذنا من عجين مع انها في العلن تدعو الناس الي الايجابية والمبادرة, والسلبية ظلت تمثل المقاومة التي واجه المصريون أشكال القهر عبر التاريخ.. وباللجوء الي التكاسل في العمل, ولكن ظهرت في الاونة الأخيرة انماط ايجابية لمواجهة القهر تعبر عنها التعبيرات الشعبية الرائجة هذه الايام مثل خف تعوم وفتح مخك واحنا اللي دهنا الهوا دوكو واخيرا فان الشخصية المصرية في بحث الدكتور عودة تلجأ الي المعتقدات الشعبية لتساعدها علي تحمل ضغوط الحياة أولمقاومة هذه الضغوط, وتتمثل هذه المعتقدات في الصبر والاعتقاد في الأولياء والأضرحة, والاندماج في الطرق الصوفية والممارسات الدينية الشعبية وغيرها من المنفسات والمسكنات..
هذه بعض سمات الشخصية المصرية كما يراها بعض العلماء في مرحلة التحول الاقتصادي والسياسي الحالية.