مع الشيخ الشعراوى (1)
ذهبت إلى الشيخ الشعراوى لإجراء حديث صحفى، وكان وقتها قد أصبح مشهورا وله جمهور كبير ينتظر ظهوره فى التليفزيون أو أحاديثه للصحافة وكانت قليلة جداً. جاءت الشهرة للشيخ فجأة بعد حديث فى التليفزيون مع الإعلامى الكبير أحمد فراج فى برنامجه المشهور «نور على نور»، وكان موضوع الحوار عن الإسراء والمعراج.. وكان حضور الشيخ الشعراوى على الشاشة الصغيرة مذهلا.. كان حديثه جديدا فى موضوع قديم يظن الناس أن أحدا لا يستطيع أن يأتى فيه بجديد، وما أصعب أن تأتى بجديد فى موضوع قديم معروف بكل تفاصيله، بعد هذا الحديث أصبح الناس مبهورين بهذا الشيخ وكأنه ثروة مذهلة غير متوقعة هبطت عليهم من حيث لا يحتسبون، وهكذا بلغت شهرته عنان السماء.. شهرة لم يبلغها أحد أبداً.. أذهلنى أن أجد الشيخ - ملء السمع والبصر - فى شقة من المساكن الشعبية مجاورة لمسجد سيدنا الحسين ووجدت عنده جمعا من الناس يضيق بهم المكان، وهو جالس على كنبة بلدى بجلبابه الأبيض هادئ النفس يستمع إلى كل سؤال ويفيض فى الإجابة على الفور وكأنه كان يعرف السؤال من قبل أو كأنه يتلقى الإجابة من حيث لا ندرى.
ومن يومها أصبحت من المريدين، لم أكن ملازما له حيث يذهب، ولكنى كنت أتابعه والتقى به من وقت لآخر وفى معظم الاحيان لم يكن حديثنا للنشر.
ومن رضا الله على هذا الرجل أنه لا يزال حيا بيننا بعد رحيله، وصورته تصاحبنا صباح مساء وصوته لا يفارقنا، وكلماته تدخل القلب والعقل معا وتستدر الدموع فى العيون.. هو نفحة سماوية طافت بنا -ولاتزال- لتأخذ بيدنا إلى طريق الايمان الصحيح، ونفهم منهج الله على حقيقته، ونكتشف بعض أسرار القرآن.
ولد فى قرية دقادوس مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية يوم 5 أبريل عام 1911 ولقى ربه فى يوم 16 يونيو عام 1998 أى أنه عاش 87 عاما، وبذلك ينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «خيركم من طال عمره وحسن عمله».. درس فى معهد الزقازيق الابتدائى والثانوى الأزهرى وتزوج وهو فى الصف الثالث الثانوى وأنجب 5 أبناء 3 ذكور وبنتين (سامى وعبدالرحيم وأحمد وفاطمة وصالحة) وتخرج فى كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر عام 1941.
عمل بعد تخرجه مدرسا فى المعاهد الأزهرية فى طنطا والزقازيق والاسكندرية وفى سنة 1950 أعير مدرسا بكلية الشريعة بجامعة الملك عبدالعزيز بالسعودية، وبعد عودته عين وكيلا للمعهد الدينى بطنطا سنة 1960، ثم مديراً للدعوة بوزارة الأوقاف سنة 1961، ثم مفتشا للغة العربية بالأزهر سنة 1962، ومديراً لمكتب شيخ الأزهر الشيخ حسن مأمون 1964، ثم رئيسا لبعثة الأزهر بالجزائر سنة 1966، وفى سنة 1970 ذهب ثانية إلى السعودية استاذا بكلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز وظل فيها خمس سنوات عاد بعدها فى سنة 1975 ليشغل منصب وكيل الأزهر إلى أن أحيل إلى التقاعد فى ابريل 1976، وفى هذه السنة حصل على وسام الاستحقاق وعين وزيرا للأوقاف فى وزارة ممدوح سالم لمدة ثلاث سنوات من نوفمبر 1976 حتى أكتوبر 1978، وفى سنة 1980 عين عضوا فى مجمع البحوث الإسلامية واختير عضوا فى مجمع اللغة العربية (مجمع الخالدين) سنة 1978 وفى سنة 1980 عين عضوا فى مجلس الشورى.
تاريخ حافل بالعطاء، لم يتوقف ابدا، وكأنه جاء مبعوثا من السماء لينشر كلمة الله بين الناس ويدعو إلى نهضة المسلمين، وابتداء من يناير 1980 تفرغ تفرغا كاملا لتقديم خواطره الايمانية مجانا للإذاعة والتليفزيون.
وقد حصل على وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى فى سنة 1976، وجائزة الملك فيصل العالمية فى مجال الدعوة الإسلامية سنة 1983، وعلى وسام الشيخ زايد رئيس دولة الإمارات، وعلى جائزة الدولة التقديرية سنة 1988، ونوقشت أول رسالة ماجستير عنه فى جامعة برلين سنة 1990، ومنحته جامعة المنصورة الدكتوراة الفخرية سنة 1990، واطلقت محافظة الجيزة اسمه على أحد شوارعها الرئيسية، وصدرت عنه عدة كتب يصعب حصرها لكثرة عددها ولأنه هو نفسه لم يحتفظ بنسخ منها.
هذا ما وجدته من معلومات فى أرشيف الأهرام، مع بيان بالمؤتمرات الدولية التى شارك فيها فى لندن وكراتشى ومونتريال، وأوتاوا.
بلاغته فى اللغة العربية لا مثيل لها، وقدرته على صك عبارات تظل عالقة فى الأذهان ولا يمكن نسيانها مثل: أقول للشباب كونوا رجالا فى طفولتكم، ولاتجعلوا رجولتكم طفولة، وقوله عن السبيل لخروج الأمة الاسلامية من تخلفها الاقتصادى واحتياجها للمعونات الخارجية: «من أراد أن تكون كلمته من رأسه فلتكن لقمته من فأسه».. و«آفة المسلمين أنهم اصبحوا مستهلكين لا منتجين».. ومن الغريب أنه على الرغم من قدراته البلاغية وموهبته الفكرية وقدرته الخارقة على التحليل وتوليد المعانى والافكار، لم يؤلف كتابا واحداً، وظل مكتفيا بإلقاء الأحاديث التى تذيعها الإذاعات وقنوات التليفزيون فى الدول العربية والإسلامية، ولكن هذه الأحاديث نشرت فى كتب قام بكتابتها من أراد من الصحفيين والناشرين وملايين المسلمين يتابعون أحاديثه ويقبلون على قراءة هذه الكتب ولا يملون من تكرار الاستماع والقراءة، لأنه فى تفسير القرآن له أسلوب يناسب جميع المستويات الثقافية، ومن ألقابه التى شاعت أنه «إمام هذا العصر» و«إمام الدعاة».
الشعر وتجديد الفكر الإسلامى
منذ البدايات أظهر الشيخ الشعراوى تفوقا فى حفظ الشعر والأقوال المأثورة واختاروه فى المعهد الثانوى رئيساً لاتحاد الطلبة ورئيساً لجمعية الأدباء بالزقازيق، وكان من بين اعضاء الجمعية من صاروا أعلاما فى الأدب والشعر: الدكتور أحمد هيكل (وزير الثقافة الأسبق) والشاعر طاهر أبوفاشا، والاستاذ خالد محمد خالد المفكر الاسلامى الكبير، والدكتور محمد عبدالمنعم الذى أسس رابطة الأدب الحديث وظل رئيسا لها حتى آخر العمر، وفى دراسته، وفى كلية اللغة العربية انشغل بالحركة الوطنية، فكان يلقى الخطب على جمع الطلاب فى ساحة الأزهر منددا بالاستعمار والاستبداد وفساد الحكم وفساد الحاكم وتعرض للاعتقال أكثر من مرة.
الشعراوى يتحدث عن نفسه
فى أحاديثه للأهرام عاد الشيخ بالذاكرة إلى سنواته الأولى عندما كان عضوا بارزا فى رابطة الأدب الحديث وتسابق معه عدد من الشعراء فى تحويل معانى الآيات إلى شعر، ولإعجاب الجميع بأشعار الشيخ الشعراوى قام هؤلاء الشعراء بطبعها على نقفتهم، ويقول عن هذا الشعر إنه كان يدور حول فكرة التوحيد وشرح أصول العقيدة والثقة فى أن الله يحب مخلوقاته ويرزقها بحساب دقيق وهو العليم بأن منهم من إذا اغناه لفسد حاله، ومنهم من إذا أفقره لفسد حاله، وفى السماء رزقكم وما توعدون، وفى ذلك يقول:
تحرى إلى الرزق أسبابه
فإنك تجهل عنوانه
ورزقك يعرف عنوانك
ويذكر الشيخ مشاركته فى مظاهرات الشباب ضد الاحتلال التى أمرت الحكومة بفتح كوبرى عباس (كوبرى الجيزة الجديد الآن - فسقط عدد كبير من الطلبة فى النيل وماتوا غرقا)، وارادت جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن) إقامة حفل تأبين لشهداء الحادث ولكن الحكومة رفضت، وللتحايل على هذا الرفض ادعى عضو لجنة الوفد بالزقازيق - حمدى المرغاوى - وفاة جدته وأقام سرادق العزاء، وبعد توافد الشباب والأهالى وبدأ إلقاء الكلمات النارية ضد الحكومة وتحية لشهداء الحرية، والقى الشيخ الشعراوى فى هذا الحفل كلمة بصفته رئيس اتحاد الطلبة قال فيها:
شباب مات لتحيا أمته، وتنتشر رايته، وقدم روحه قربانا لحريته وارتوى بدمه نهر الاستقلال، وألقى قصيدة قال فيها:
نداء يا بنى وطنى نداء.. دم الشهداء يذكره الشباب
وهل ننسى الضحايا والضحايا.. بهم قد عزّ فى مصر المصاب
شباب برّ لم يفرق وأدى.. رسالته وهاهى ذى تجاب
فلم يجبن ولم يبخل وأرغى.. وأزبد لا تزعزعه الحراب
وقدم روحه للحق مهرا.. ومن دمه المراق بدا الخضاب
وآثر أن يموت شهيد مصر.. لتحيا مصر مركزها مهاب
وكانت أول رسالة جامعية عن فكر الشيخ الشعراوى هى التى تقدم بها الشيخ بهاء الدين سلام إلى كلية الدراسات الاسلامية فى جامعة المقاصد فى لبنان ونال بها درجة الماجستير وكانت بعنوان «تجديد الفكر الإسلامى فى خواطر الشيخ الشعراوى»، وشملت سيرة الشيخ ودعوته وأثر الأحوال السياية والاقتصادية والفكرية والدينية فى تكوينه العقلى والعقائدى، وابرز خصائص اسلوبه ومواطن التجديد فى تفسيره للقرآن، وآراء العلماء فى الشيخ ومنهجه فى التفسير.. وبعد ذلك اعدت رسائل للماجستير والدكتوارة عن الشيخ وفكره آخرها رسالة ماجستير فى كلية التربية جامعة المنيا عن آرائه فى تطوير اساليب التربية..
وصدق من قال إن الشيخ الشعراوى داعية بعثه الله لكل العصور.