كل مالدينا في الكتاب والسنة عن الحكم والسياسة مبدآن أساسيان: الأول قول الله تعالي وأمرهم شوري بينهم وأمره للرسول: وشاورهم في الأمر بما يعني أن تطبيق الشريعة يتلخص في الشوري, والمبدأ الثاني في الحديث الشريف: أنتم أعلم بشئون دنياكم.
بما يعني أن المسلمين لهم الحرية في تنظيم شئون حياتهم وفق مصلحتهم ومايتفق مع طبيعة كل عصر.
ومعني ذلك أن رفض بعض الحركات الإسلامية للديمقراطية الحديثة موقف يتعارض مع روح الإسلام ولايستند علي دليل في الكتاب والسنة, لأن نظام الحكم في العصر الحاضر قائم علي الديمقراطية الحديثة بمؤسساتها وأساليب ممارستها اليوم, ولم تعد مقصورة علي الغرب, ولكنها إرث للإنسانية كلها, وإذا كانت الشوري في القرون الماضية تعني حصرها في دائرة ضيقة هم أهل الحل والعقد فقد كان ذلك نتاج هذه العصور, بينما أنتج العصر الحديث أساليب للشوري تعطي للشعوب الحق في المشاركة في الحكم, بالانتخاب الحر, وبالدستور وبضمان ممارسة الحريات والفصل بين السلطات والمشكلة الآن في المجتمعات العربية تتمثل في عودة المكبوت الاجتماعي والسياسي في العقل العربي نتيجة لما تعرض له من نكسات وإحباط, كما يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري, ويقصد بذلك عودة روح القبيلة و الطائفية التطرف الديني الي الساحة العربية بصورة لم يتوقعها أحد من قبل. لقد عاد المكبوت ليحاول صياغة حاضرنا مشابها لماضينا.
وفي تاريخ الحكم والسياسة في العالم الإسلامي كانت سلطة الحاكم في الدولة الإسلامية في جميع العصور ـ بعد الخلفاء الراشدين سلطة مطلقة في كل مايتعلق بالشريعة في شئون المجتمع, وحتي أحكام القضاء في العصر العباسي كان يصدرها الخليفة وكان دور القضاة مقصورا علي اقتراح الأحكام, ولم يكن للرعية من الأمر شيء. وكان فقه السياسة دائما في الدولة الإسلامية قائما علي أن طاعة الحاكم من طاعة الله, ولذلك يجب أن يطاع في كل أمر إلا إذا أمر بمعصيته, وهكذا كانت السلطة المطلقة للحاكم والطاعة المطلقة من المحكومين تطبيقا للشريعة واعتبار الخليفة سلطان الله وممثله علي الأرض(!!) وأما حرية الإنسان التي قررها الإسلام والتي تعني رفض استبداد الحكام فكان يتم توظيفها ـ مع المباديء الإسلامية الأخري ـ لتبرير وتمجيد الاستبداد وإضفاء الشرعية عليه حتي بلغ الأمر الي حد القول بأن الخليفة يتصف بصفات الله وأهمها التوحيد والعدل وألا يكون له شريك في الملك وهو ليس كسائر البشر, وكما قال الجاحظ في كتابه أخلاق الملوك: ليس أخلاق الملوك كأخلاق العامة.. فإن للملك البهاء والعز والتفرد وله طاعة أهل المملكة..
هذا النموذج للحكم الفردي الذي يدعي البعض الآن أنه كان مثاليا في الصلاح وتطبيق الشريعة, نجده هو الأصل وليس الاستثناء.. فهو في الدولة الأموية, والدولة العباسية, كما نجده بصورة أكبر وأشد في عصر النفوذ العثماني, وفي العصر البويهي, والعصر السلجوقي, وكلها صور مستنسخة من النموذج الإمبراطوري الفارسي الذي ورث العرب حضارته ولم يستبعدوا منه شيئا غير الشرك بالله.
ولذلك نجد الجاحظ يعبر عن فقه السياسة في الإسلام بقوله إن الحاكم ليس كسائر البشر والذنب الذي يرتكبه ليس كالذنب الذي يرتكبه السوقة لأن الملك في منزلة بين الله وبين العباد, فكل شيء من أمر الملك حسن في الرضا والسخط, والأخذ والمنع, وفي السراء والضراء, وهكذا تبدو المماثلة بين الله والخليفة متغلغلة في اللاشعور السياسي في العقل العربي. ويؤكد ذلك مايقوله الماوردي في كتابه نصيحة الملوك إن الله اصطفي الملائكة, واصطفي الرسل, ثم اصطفي الملوك من بين الناس, فكان الملك هو الآلة التي يديرها الله لتنفيذ مشيئته, وهذا أيضا ما يؤكد عليه أبو بكر الطرطوشي من أكبر فقهاء عصره في كتابه سراج الملوك من ضرورة وجود السلطان في الأرض, وأول واجباته أن ينزل نفسه مع الله منزلة فهذا طريق الطبيعة الشرعي, وحتي الفارابي نجده في كتابه السياسة المدنية يشرح المماثلة بين الله والسلطان, فيقول إن الدولة في نظامها تماثل نظام الكون, فالله في الكون هو المبدأ الأول ويأتي بعده بالترتيب الملائكة, ثم الأفلاك والأجرام السماوية, ثم الأشياء المادية في الأرض, وآخر الموجودات رتبة هي المادة الخام غير المشكلة, ونفس الترتيب نجده في الدولة الملك هوالمبدأ الأول, وبعده في المرتبة يأتي الصحابة, ثم خاصة الخاصة, ثم الخاصة, وفي الآخر يأتي عامة الناس وهم يمثلون المواد غيرالمشكلة في الطبيعة, أما طائفة الإسماعيلية فإن فقه السياسة عندهم قائم علي تأليه الإمام ـ الحاكم بصورة صريحة.
ينتهي الجابري من استعراض نظم الحكم في الدولة الإسلامية في مختلف العصور الي أن المستقر في اللاشعور السياسي حتي في العصر الحديث هو الحاكم المستبد العادل لافرق في ذلك بين السنة والشيعة, أو بين الحنابلة والأشعرية والمعتزلة, أو بين المتكلمين والفلاسفة, أو بين الاتجاهات الفكرية المعاصرة بمختلف أسمائها, فهذا هو نموذج الحاكم المثالي في الدولة الإسلامية, وهونموذج لكل قائد أو أمير من أمراء الجماعات, والدليل علي ذلك أن الجماعات المعاصرة تفرض علي أتباعها آداء اليمين علي المصحف علي السمع والطاعة لأمر الجماعة, وبعضها يبيح قتل من يخرج علي طاعة الأمير فأين هذا من الديمقراطية الحديثة التي يؤدي فيها الحاكم اليمين علي الخضوع للدستور والقانون؟