في مشروعه الفكري الكبير ـ نقد العقل العربي ـ تناول المفكر المغربي محمد عابد الجابري موضوع الدين والسياسة بمنهج تاريخي ـ تحليلي ـ نقدي توصل فيه الي أمرين. الأمر الأول أن الاسلام ليس فيه سلطة دينية,
والأمر الثاني أن الاسلام لم يشرع لنظام الدولة كما شرع لأمور الدين وترك تحديد نظام الحكم وأسلوب ادارة الدولة لاجتهادات المسلمين ولظروف كل مجتمع وكل عصر.
ودلل الجابري علي ذلك في كتابه المرجعي العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته علي أن الاسلام لو كان قد حدد شكل الحكم وطريقته ومدته لما اختلف الصحابة منذ البداية علي من يخلف الرسول, ولما اختلفت طرق تعيين كل خليفة عن الآخر في زمن الخلفاء الراشدين وبعدهم. ولكن تم بعد ذلك توظيف الدين واستخدامه لأغراض سياسية مند عهد الخليفة عثمان, فبعد أن كان الخليفة أبو بكر قد أعلن مبدأ الحكم والتزام الحاكم بقوله:
إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن رأيتموني علي حق فأعينوني وإن رأيتموني علي باطل فسددوني وأرسي بذلك سياسة الحكم علي الشوري والمشاركة, تغير المبدأ ـ باسم الاسلام أيضا ـ علي يد أبي جعفر المنصور وأعلن: إنما أنا سلطان الله علي الأرض, وحارسه علي ماله, أعمل فيه بمشيئته وإرادته. وبذلك تم التحول باسم تطبيق الشريعة أيضا من نظام ديمقراطي إلي نظام دكتاتوري يستمد شرعيته من التفويض الالهي أقرب إلي النظام الاستبدادي الذي عرفته أوروبا حين كان الملوك يعتبرون ظل الله علي الأرض ويحكمون بسلطة دينية لا يجوز مناقشتها أو الاختلاف معها وليس علي الرعية إلا السمع والطاعة. هكذا شهد التاريخ الاسلامي الحكم الديمقراطي والحكم الاستبدادي وكلاهما كان يعلن أنه يطبق الشريعة.
وتمثل توظيف الدين في السياسة في استخدام حديث منسوب إلي النبي( ص) يقول: ستفترق أمتي علي ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.
فقد قال أهل السنة أن الرسول يقصدهم.
وقالت المعتزلة والخوارج والشيعة وكل الفرق الاسلامية أنها هي الفرقة التي تنبأ بها الرسول.. كل فريق يري أنهم جند الله وأنهم حزب الله وكل المسلمين غيرهم في حزب الشيطان.
والواقع أن الفرق الدينية التي ظهرت في التاريخ الاسلامي حتي اليوم هي في الحقيقة أحزاب سياسية استخدمت المصطلح السياسي علي أنه مصطلح ديني, واعتبرت الخارج عليهم خارجا علي الاسلام( زنديق أو منافق أو كافر) بحسب رؤية كل فرقة.
فالدولة الأموية جعلت من قضية( الجبر والاختيار) قضية سياسية وهي في الأصل من قضايا علم الكلام في العقيدة الدينية, هل الانسان مجبر علي أفعاله كتبها الله له وليس
له من الأمر شيء, وعليه طاعة الله بقبول ما كتبه الله, واعتبرت الدولة الأموية أن القول بأن الانسان حر في اختيار أفعاله انكارا للعقيدة يستوجب العقاب. مبدأ( الجبر) أو( الحتمية) الذي يعني أن كل شيء في الحياة هو ما قدره الله ولا تبديل لارادة الله تحول الي نظرية سياسية لاسباغ الشرعية علي الدولة الأموية التي أعلنت أنها جاءت إلي الحكم لأن هذه هي ارادة الله, وهذا هو المكتوب في اللوح المحفوظ, وبالتالي فإن التسليم بشرعية هذه الدولة وقبول كل ما تقضي به واجب ديني وليس مجرد التزام سياسي, والخروج عليه رفض لإرادة الله وكفر. وهكذا كانت كل دولة; دينية عرفها التاريخ الاسلامي كما عرفها تاريخ أوروبا باستخدام سلطة الكنيسة واعتبار الملك هو الممثل لله علي الارض. وهكذا ستكون كل دولة دينية في المستقبل. كان معاوية يستخدم الآية الكريمة: ولو شاء الله ما اقتتلوا, ولكن الله يفعل ما يريد وبعده قال ابنه يزيد انهم يحكمون باختيار الله لهم ولا يتعرض لحقهم في ذلك أحد إلا أهلكه الله وصار موعظة لغيره, وكما اختار الله آدم ليكون خليفته علي الأرض, واختار الرسول ليبلغ الرسالة واختار الخلفاء الراشدين, كذلك اختار بني أمية ليكونوا حكاما علي المسلمين, فالخضوع لهم من أفضل الطاعات وعلي المسلمين أن يشكروا الله أن اختار لهم أحسن من يقدر علي تدبير أمورهم, وصارت القاب الخلفاء( خليفة الله في الأرض) و(أمين الله) و(الإمام المصطفي), ولم يعدم الخلفاء من وضعوا أحاديث نسبوها للرسول( صلي الله عليه وسلم) تدفع هؤلاء الحكام الي مقام الأنبياء مثل حديث:( الأمناء ثلاثة: جبريل, وأنا, ومعاوية) والغريب أن هذه الأحاديث نسبت الي أساطين رواة الحديث مثل عائشة وعبدالله بن عمر. وأبي هريرة, وتذكرها كتب السنة المعتمدة, بينما هناك أحاديث عكس ذلك تنسب أيضا الي نفس الرواة مثل حديث عن ابن مسعود: قال رسول الله) ص( اذا رأيتم معاوية علي منبري فاقتلوه وعن عبدالله بن عمر: قال رسول الله( صلي الله عليه وسلم) يطلع عليكم رجل من أمتي يبعث يوم القيامة علي غير ملتي) وعن أبي هريرة: كان رسول الله( صلي الله عليه وسلم)( اذا رفع رأسه في الركعة الثالثة من المغرب قال اللهم العن معاوية والعن عمرو بن العاص..) وعن أبي ذر:( قال رسول الله( صلي الله عليه وسلم) أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية والملاحظ أن هذه الاحاديث شاعت بين أهل السنة وليس بين الخوارج أو الشيعة أو غيرهم, وكما يقول الجابري فإن هذه الأحاديث لا تحتاج الي دليل علي كذبها ولكن عندما تنسب للرسول ويرويها الرواة علي المنابر تكون لها سلطة علي عقول العامة. والخلاصة أن الحرب السياسية بين الأحزاب أو الفرق الدينية استخدمت الدين للسيطرة علي العقول وكتم أنفاس المعارضين.
واستخدم في السياسة ايضا سلاح التكفير وشعار الحكم لله وحده وحين نستعرض بقية مشروع الجابري في دراسة وتحليل العقل السياسي العربي سوف نكتشف أن كل نظام حكم قام علي الدين كان حكما استبداديا تستر بالدين للقضاء علي كل صوت يعارضه علي أساس أنه إنما يعارض حكم الله وشريعته, والتاريخ الاسلامي مليء بالشواهد علي ذلك