رحل جمال حمدان عن عالمنا عام1993 بسبب الحريق الغامض الذي شب في مسكنه, وترك لنا ميراثا ضخما من الكتب والدراسات المؤسسة للعقل العربي الحديث.
وبعد رحيله أصدرت دار الهلال كتابا يحتوي خواطر متفرقة وقيل أن ورثته منعوا نشر بقية أوراقه, ولكننا فوجئنا منذ أيام بصدور كتاب صغير آخر(71 صفحة) من منشورات عالم الكتب واعداد الدكتور عبد الحميد صالح يضم خواطر أخري, دون ايضاح أين كانت هذه الأوراق أوكيف تم العثور عليها وهل هناك مذكرات أخري أم ان هذه كل ما ترك؟
الكتاب الجديد بعنوان تجاري بحت هو العلامة الدكتور جمال حمدان ولمحات من مذكراته الخاصة وللوهلة الأولي يتضح ان ما فيه ليس مذكرات يحكي فيها كبار الشخصيات والكتاب بقدر من الصراحة سيرة حياتهم بما فيها من حقائق وأسرار, كما يتضح أيضا ان هذه الخواطر ليست خاصة بمعني ان صاحبها يبوح فيها لنفسه أو للنشر بعد وفاته بما لا يحب ان يعرفه الناس في حياته, ولكن هذه الخواطر ليست الا أفكارا وملاحظات تمثل مسودات كان يسجلها لتكون مادة أولية يمكن ان يستخدمها في كتاباته, ويبدو أنه كان مشغولا بالتفكير في وضع العالم العربي والاسلامي في الإستراتيجية العالمية في الحاضر والمستقبل.. ولا أحد يجهل أن جمال حمدان ـ ذلك العبقري الناسك في محراب الفكر ـ كان قد كرس حياته لتأسيس مشروع قومي لنهضة بلده وأمته عبر عنه في موسوعته الشهيرة شخصية مصر.
وإذا كانت هذه الأفكار قد كتبها جمال حمدان في سنواته الأخيرة فيبدو انه كان يسيطر عليه الاكتئاب والشعور بالإحباط نتيجة حياة العزلة الطويلة القاسية, والحرمان من الحياة الطبيعية والعلاقات الاجتماعية والحوار مع الآخرين, لذلك نجده يتحدث حديث اليائس من العالم العربي ومن العالم الاسلامي ومن المستقبل عموما دون ان يحاول فتح ثغرة للخروج من المأزق التاريخي الذي تعيش فيه المنطقة, وان كان الوصف والتحليل والتشريح والتشخيص من أهم وظائف المفكر فإن طرح رؤية للمستقبل وتصور للخلاص من الأزمات هي المهمة المنتظرة من مفكر كبير بحجم جمال حمدان, وإن كنا نضع في اعتبارنا ان هذه الأفكار لم تأخذ الشكل النهائي, ولابد انها كانت ستخضع للمراجعة كما يحدث دائما فيضيف الكاتب ويحذف ويعدل عن بعض أفكاره بعد هذه المراجعة, ولذلك فإن الاطلاع عليها يفيد في التعرف علي توجهات فكر جمال حمدان في مرحلة ما وفي لحظة ما وإن كنا لانعرف متي كانت هذه المرحلة وهذه اللحظة, لانه لم يكتب تاريخ كتابة كل منها, والدكتور عبد الحميد صالح الذي أعدها للنشر لم يحاول ذلك, ولم يحاول معرفة الحالة التي كانت عليها هذه الأوراق وقت عثوره عليها وعلاقتها بما كان قد شاع من أن الدكتور حمدان كان قد أعد كتابا عن اسرائيل وأبلغ ناشره بأن هذا الكتاب جاهز ولم يعثر عليه أحد بعد وفاته, وفي الخواطر التي يضمها الكتاب الجديد آراء عن اسرائيل وخطورتها الإستراتيجية وعن موقفه الرافض لكامب ديفيد وأسلو. فهل كانت هذه الآراء هي التي يتضمنها الكتاب المفقود, ثم ان الدكتور عبد الحميد حذف بعض الألفاظ والعبارات دون أن يبني علي أي أساس حذفها وكانت الأمانة العلمية تقتضي ألا يمارس دور الرقابة أو أن يوضح سبب الحذف علي الأقل.
في هذه الخواطر يري جمال حمدان ان حجم مصر الفعلي اليوم هو ضعف حجمها منذ يونيو وكامب ديفيد, ولكن وزنها النسبي بين العرب ومع العالم أصبح نصف وزنها حينئذ ولم تعد وحيدة علي القمة في العالم العربي بل أصبح لها منافسون عديدون, وأن مصر تتغير, كل شيء في مصر, وحول مصر يتغير, ولا مفر من أن تصبح دولة عصرية رأسها في أوروبا, وأقدامها في افريقيا, وجسمها في العالم العربي, فلا مكان لدولة نصف عصرية, ودعك من الدولة السلفية اللاعصرية المتخلفة البدائية التي يسمونها دولة نامية, وهذه التسمية مجاملة للدول المتخلفة, أما معني الدولة العصرية فإن بدايتها الوحيدة حكم الشعب المثقف, المشكلة ان تعداد سكان مصر بلغ الذروة غير المتصورة, بينما مساحة الأرض ثابتة تقريبا والطفح السكاني أصبح بالوعة للأرض حتي يأتي يوم تطرد الزراعة من الأرض لتصبح كلها مكانا للسكن.. وفي كل الدنيا هناك تعليم ديني خاص وتخصصي لقلة محدودة لتغذية الجهاز الديني, ثم هناك التعليم المدني الذي يشمل99% من المتعلمين ويشمل علوم الحياة, ولكن في مصر كان التعليم الديني هو التعليم الوحيد ولم يكن هناك علوم بالمعني الحديث, ولم يكن هناك عصر العلم, وسيدرك كل السفهاء في النهاية ان مصر بيئة جغرافية لا تصلح بطبيعتها للرأسمالية المسعورة الجانحة, الرأسمالية الهوجاء التي ستكون مقتل مصر الطبيعية, وبيئة مصر بيئة حساسة محدودة الرقعة وأي عبث انساني فيها يدمرها كبيئة.
يقول جمال حمدان في خواطره: علي الذين يرون ان المصريين فراعنة لا عربا فليتكلموا الهيروغليفية, وإذا كان الاسلاميون يرفضون العروبة ولايقبلون بغير الوحدة الاسلامية فإننا نقول لهم اذا أردتم إلغاء القومية العربية والذوبان في الوحدة الاسلامية فلتتركوا اللغات القومية التي يتحدث بها المسلمون من غير العرب وليتحدث الجميع لغة واحدة! ويقول: ان العلمانية ليست نقيض الدين ولكنها نقيض الدروشة, فالعلمانية ترشيد الدين وهي وسطية التدين, العلمانية وسط بين الدين والدنيا. وهي التدين بلا تطرف. وأخيرا فإن جمال حمدان يقول في خواطره: لا اسلام بلا علمانية وان كانت هناك علمانية بلا اسلام.
وتبقي خواطره عن اسرائيل وهي لا تخرج عما ذكره في شخصية مصر, وفي النهاية يحتاج الكتاب الي مراجعة من أهل الاختصاص لانه ينسب الي شخصية تاريخية فلا يجوز ان يمر مرور الكرام.