عندما عين الدكتور محمد سيد طنطاوي مفتيا للجمهورية في عام1986 أرسلت اليه الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي تطلب الرأي الشرعي في ضريبة التركات ورسم الأيلولة اللتين تخصمهما الحكومة من الميراث قبل توزيعه علي الورثة الشرعيين.
وبدأ الدكتور طنطاوي في دراسة طبيعة هذه الضريبة مستعينا بوزارة المالية وبعدد من الخبراء. في ذلك الوقت حاول رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية إثناء المفتي عن التصدي لهذا الموضوع, وقالا له إن هذه الضريبة صارت جزءا من ايرادات الخزانة العامة ولا يمكن الاستغناء عنها. ولكنه مضي في بحثه وأعلن الفتوي التي أثارت يومها ضجة وتسببت في غضب الحكومة, وقال في فتواه إن الدولة لها الحق في أن تقتطع من التركة ما يستحق لها من ضرائب لم يسددها الميت, أما اذا كان قد دفع كل ما عليه للدولة فلا يجوز شرعا أن تأخذ الدولة شيئا من التركة وتكون بكاملها حقا للورثة, والدولة ليست من الورثة الشرعيين الذين ورد ذكرهم علي سبيل الحصر في الآيتين(11 و12) من سورة النساء, وإذا خالفت الدولة ذلك وفرضت من القوانين ما لم يأذن به الله فإن الذين يملكون سلطة التشريع عليهم مسئولية أمام الله بإلغاء هذه القوانين, فإذا لم يفعلوا كانوا مقصرين في حق خالقهم وفي حق الأمة التي وكلتهم عنها في إحقاق الحق وإبطال الباطل, وللدولة أن تفرض رسوما علي تسجيل أنصبة الورثة وليس لها أن تفرض رسم الأيلولة.
واضطرت الحكومة بعد صدور هذه الفتوي الي الغاء ضريبة التركات التي كانت تحصل عليها منذ سنوات.
وكان الدكتور طنطاوي أول من تصدي لقضية نقل الأعضاء وأول من يصدر فتوي رسمية في شأنها ووضع الحدود الشرعية لها, بأن بيع الأعضاء حرام لأن جسد الانسان وأعضاءه ليست محلا للمتاجرة فيها, أما التبرع بعضو أو بجزء من انسان حي أو من انسان ميت فإن رأي جمهور الفقهاء أن ذلك جائز بشروط أولها أن يقرر الأطباء الثقاة بأن ذلك لا يترتب عليه ضرر بليغ بالشخص المتبرع ويترتب عليه انقاذ الشخص المتبرع له, وهذا ينطبق علي الدم أيضا.. بيع الدم حرام والتبرع به لانقاذ من يحتاج إليه حلال ويثاب عليه المتبرع, لأن دفع الأذي من أهم الفضائل التي يحبها الله.. ولكن هذه الفتوي التي أخذت بها معظم البلاد الاسلامية واجهت اعتراضات من البعض, كما امتدت الاعتراضات الي فتواه بأن تنظيم الأسرة حلال, وأسسها علي أن شريعة الاسلام تركت لأهل الخبرة والاجتهاد الحكم في الأمور التي تخضع فها المصلحة للظروف والأحوال, وفرضت بنصوص قاطعة الحكم في الأمور التي لا تختلف فيها المصلحة باختلاف الأوقات والظروف, فهناك دول مصلحتها في زيادة النسل في مرحلة من المراحل, ودول مصلحتها في تنظيم الأسرة, لأن كثرة النسل تحقق فوائد لشعوب لها ظروف خاصة وتحقق ضررا لشعوب أخري لها ظروف مختلفة, وقد ذكر الفقهاء الأسباب التي تبيح تنظيم النسل مثل الإمام ابو حامد الغزالي الذي أباح ذلك بسبب الخوف من الحرج بسبب كثرة الأولاد أو بسبب المحافظة علي صحة المرأة, وأباح الغزالي تحديد النسل اذا خافت المرأة ان يفسد جمالها كثرة الحمل, والأئمة الاربعة أباحوا تنظيم النسل, وكذلك الإمام ابن القيم, وإباحه في العصر الحديث شيوخ الفقه الكبار من أمثال الشيخ محمود شلتوت والشيخ سيد سابق والشيخ عبدالمجيد سليم والشيخ عبدالعزيز بن باز رئيس هيئة الافتاء السابق في السعودية. وختم الدكتور طنطاوي فتواه بأنه لا يجوز أن تصدر الدولة قانونا لتنظيم الأسرة لأن الظروف تختلف من أسرة الي أسرة.
بعد هذه الفتوي بدأ المتشددون في مهاجمة الشيخ علي الرغم من تأييد الأغلبية من العلماء له في مختلف الدول الاسلامية, كما غضب منه بعض المسئولين حين أصدر فتوي بأن الوساطة التي تؤدي الي تقديم انسان علي آخر بدون وجه حق أو حرمان شخص من حق من حقوقه ليحصل عليها من لا يستحق, هذه الوساطة حرام وكل ما يتنافي مع العدل وإحقاق الحق فهو حرام, وكانت هذه الفتوي صفعة في مواجهة انتشار الوساطات من ذوي النفوذ وأعضاء مجلس الشعب مما أدي الي اختلال ميزان العدل وتكافؤ الفرص.
وكثير من الفتاوي التي أصدرها الشيخ واجهت معارضة في البداية ولكن ثبت أنها معتمدة علي آراء كبار الفقهاء القدامي والمحدثين وإن عارضت آراء بعضهم فإن ذلك من طبيعة الاجتهاد في الفقه, لأن الفقه والفتوي من عمل العقل وفق أصول معروفة للعلماء ووجود مذاهب فقهية بينها خلافات في الفروع وليست في الأصول.. وفيما لا يوجد فيه نص صريح في القرآن والسنة, وهذا ما فعله الامام محمد سيد طنطاوي فأفتي بأن أطفال الأنابيب حلال اذا لم يكن فيه اختلاط الانساب, وإن الاجهاض حلال اذا كانت هناك خطورة مؤكدة علي صحة الأم أو قطع الطب بأن الجنين سيكون مشوها, وأن التمويل العقاري حلال مادام وفق الأحكام الشرعية وليس فيه ظلم, وصناديق التوفير وشهادات الاستثمار حلال لأنها معاملة حديثة نافعة للأفراد وللمجتمع وليس فيها استغلال وتعين الدولة علي تنفيذ المشروعات النافعة, وختان الإناث عادة ليس لها أصل في الشرع وقرر الاطباء الثقاة ضررها ولا وجود لها في معظم البلاد الاسلامية مثل السعودية, والكويت, وقطر, وليبيا, وتونس, والجزائر, وعلينا أن نتبع ما يقطع به الأطباء وهم أهل الاختصاص.
وليس هذا كل ما أفتي به.
ولقد توافر في الدكتور طنطاوي الشرط الذي وضعه الامام الشافعي لكل من يتصدي للافتاء بقوله: لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلا حافظا لكتاب الله تعالي, بصيرا بحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم, وبصيرا باللغة العربية الفصحي, وتكون له قريحة وقادة, فإذا بلغ هذه الدرجة فله أن يفتي في دين الله تعالي, وأن يبين الحلال والحرام, وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي.
وهذا ما ينطبق علي الدكتور طنطاوي.