مع الإمام الأكبر الشيخ الطنطاوي6

منذ عشرين عاما قال لي البابا شنوده إنه يتابع نشاط المفتي الدكتور محمد سيد طنطاوي ويجد فيه التسامح والعقلية المتفتحة ويريد أن يلتقي به ويري أن من الممكن أن يعملا معا لمصلحة البلد‏,‏ وسألني‏:‏ هل يمكنك أن تحدد لي موعدا لزيارته في دار الافتاء.


وعندما نقلت هذا الحديث إلي الدكتور طنطاوي قال‏:‏ بل أنا الذي أزوره‏,‏ أنا أشعر في أحاديثه بالوطنية والاخلاص‏,‏ ومستعد للذهاب إليه في أي وقت‏.‏ لكن البابا صمم علي أن يكون هو الباديء بالزيارة وسألني‏:‏ ما هي الهدية المناسبة التي أحملها إليه؟ وكانت مفاجأة لي أن البابا ذهب مع عدد ممن الأساقفة وكانت هديته مجموعة كبيرة من أمهات كتب التفسير أمر الشيخ باضافتها إلي مكتبة دار الافتاء مع اشارة إلي أنها إهداء من البابا‏.‏

وتوثقت بينهما العلاقة خاصة في الأوقات التي تلعب فيها الأصابع الخفية وتفتعل ما تسميه الصحافة الفتنة الطائفية‏.‏ كانا يتبادلان الزيارات وتدور بينهما أحاديث الأصدقاء في الشئون العامة‏,‏ وفي الأدب‏,‏ والتاريخ‏,‏ والشعر‏,‏ وتبادل الفكاهات‏,‏ وكلاهما لديه روح الفكاهة‏.‏ كان الشيخ مهما كانت مشاغله حريصا علي الذهاب إلي البابا في عيد الميلاد وعيد القيامة وحضور افطار رمضان الذي يقيمه البابا‏,‏ كما كان حريصا علي دعوة البابا إلي افطار رمضان الذي يقيمه الأزهر والأوقاف وإلي الندوات واللقاءات الفكرية‏,‏ ويخصص له مقعدا إلي جانبه علي المنصة في جلسات افتتاح المؤتمر الإسلامي الذي يعقد سنويا ويحضره كبار رجال الدين الإسلامي من أنحاء العالم‏.‏ وأذكر أن الشيخ زايد حاكم الامارات الراحل دعا الشيخ إلي زيارة الإمارات وأرسل إليه طائرة خاصة‏,‏ وفي اليوم الثاني للزيارة تذكر الشيخ أن غدا عيد الميلاد فاستأذن من الشيخ زايد وقطع رحلته وعاد إلي القاهرة وذهب من المطار إلي مقر البابوية‏,‏ وكان حضوره مفاجأة لنا جميعا‏,‏ لاننا كنا قد اعتذرنا بالنيابة عنه لسفره المفاجيء‏.‏

في المقابل كان البابا يزور الشيخ مع عدد من كبار المطارنة والأساقفة في مناسبتي عيد الفطر وعيد الأضحي وأصبحت هذه الزيارات واللقاءات من تقاليد الحياة المصرية‏,‏ وانتشر هذا التقليد في كل الأنحاء فصار الشيوخ يذهبون إلي الكنائس للتهنئة بالأعياد‏,‏ والقسس يذهبون إلي المساجد ومقار الأوقاف والأزهر‏,‏ وانتشرت أيضا موائد الافطار التي تجمع المسلمين والمسيحيين في رمضان‏.‏

كان الشيخ يشعر بأن عليه واجب التصدي للمحاولات الخبيثة التي تسعي إلي اثارة الفتنة داخل الشعب الواحد‏,‏ وكان موقفه الذي يؤمن به أن العقائد لا تباع ولا تشتري‏,‏ ولا إكراه في الدين‏,‏ وأن المسلم الحق هو الذي يؤمن بحرية العقيدة‏,‏ وبأنها علاقة بين الإنسان وربه‏,‏ ولا يمكن أن يكون اختلاف العقائد سببا للفرقة‏,‏ فنحن شعب واحد يعيش علي أرض واحدة‏,‏ ونشرب من نهر واحد‏,‏ ونتجه بالعبادة إلي إله واحد‏,‏ فليس هناك إله للمسلمين وإله للمسيحيين‏,‏ وفي الحروب وأوقات الخطر يتحمل المسلم والمسيحي التضحيات دون تمييز‏,‏ ولم يفرق العدو بين دم المسلم ودم المسيحي‏,‏ وكان يردد دائما أن والده كان مزارعا وله شريك مسيحي في قطعة أرض يزرعانها معا ويقتسمان المحصول‏,‏ ومات والده وهو صغير فاستمر الشريك المسيحي في زراعة الأرض واقتسام المحصول وهكذا عاش ويعيش المصريون في اندماج كامل لا تعكره تصرفات بعض الحمقي والمجرمين الذين لا يخلو منهم مجتمع‏.‏ وكان البابا يردد قصته عندما ماتت أمه بحمي النفاس عقب ولادته وانشغل الجميع في الجنازة والعزاء وبعد أيام تذكروا الطفل فوجدوا أن جارة مسلمة أخذته وأرضعته مع ابنها‏,‏ ويعلق البابا علي هذه القصة‏:‏ إن لي أخا في الرضاعة مسلما‏,‏ وهذه هي مصر‏.‏

وسجل الشيخ في السعي إلي مواجهته محاولات اثارة الفتنة الطائفية سجل معروف‏,‏ فقد طاف أنحاء البلاد‏,‏ وزار مواقع الأحداث‏,‏ والقي مئات الأحاديث عن موقف الإسلام من احترام الأديان والرسل جميعا دون تفرقة وفي رحلاته إلي دول أوروبا والولايات المتحدة كان يطالب المسلمين الذين يعيشون في الغرب بأن يكونوا معمرين لا مخربين‏,‏ مصلحين لا مفسدين‏,‏ وأن يلتزموا بأدب الضيافة في البلاد التي تستضيفهم‏,‏ وأن يلتزموا بعقيدتهم ويحترموا عقائد الآخرين‏..‏ ولاشك في أن جهاده الذي استمر سنوات طويلة كان له أثر في احباط مؤامرات كانت تسعي إلي اشعال نار الفتنة بين أبناء الشعب الواحد‏.‏

وفي كل رحلاته الخارجية كان حريصا علي لقاء القيادات الدينية المسيحية واليهودية‏,‏ وكان يفرق بين اليهودية كدين‏,‏ وبين الصهيونية كحركة سياسية وعسكرية استعمارية لها أطماع في المنطقة لا تخفيها‏..‏ وكان رأيه أن الحوار هو الوسيلة التي يجب أن يحرص عليها رجال الدين علي اختلاف دياناتهم للتوصل إلي التعايش علي أساس من العدل ويقول إن العنف والإرهاب والحروب لم تحقق إلا الفشل علي مدي التاريخ الإنساني‏,‏ وأن الحوار هو الذي أثبت جدواه في حل الخلافات ولا يخشي من المواجهة والحوار صاحب الحق والحجة‏,‏ وإنما يخشاه المغتصب والظالم وصاحب الحجة الضعيفة‏,‏ ولذلك انشأ في الأزهر لأول مرة لجنة للحوار بين الأديان‏,‏ وزار بابا روما الراحل يوحنا بولس السادس عشر في مقره واستقبله في القاهرة‏,‏ وكتب إلي البابا الحالي بندكوس رسالة هادئة يبين له بالدليل عدم صحة الاتهامات التي وجهها إلي الإسلام ودعاه إلي حوار يتبين فيه وجه الصواب‏,‏ وبهذا المنطق استقبل الحاخام حين طلب لقاءه وقال لمن انتقد هذا اللقاء‏:‏ كيف نمتنع عن حوار نستطيع أن نقول فيه كلمة الحق‏,‏ وليسمع مني أن رجل الدين الذي يؤيد الظلم منافق‏,‏ وليس هناك دين يدعو إلي اغتصاب حقوق الآخرين وحرمانهم من الحياة والحرية وسفك دماء الآمنين‏,‏ ومن يؤيد ذلك عليه لعنة الله إلي يوم الدين‏.‏


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف