نصـيحة الشـيخ الغـزالى
كان الشيخ محمد الغزالى - رحمه الله - مختلفاً فى فكره عن رجال الدين التقليديين، كان يدعونا إلى الحياة والاستمتاع بما فيها من متع حلال وكان هؤلاء يدعوننا إلى الزهد فى الحياة وحب الموت وترك الحياة وما فيها لغيرنا، وكأن من يأخذ نصيبه من الدنيا سيحرم من نصيبه فى الآخرة، وكان بعض الشيوخ يحرّمون الموسيقى والتمثيل والتليفزيون والرسم والفنون جميعاً. بينما كان هو يقول: الحلال بيّن والحرام بيّن، والأصل فى شريعة الإسلام أن كل شىء حلال ما لم يكن محرما بنص فى القرآن والسُنة، فالفنون كلها حلال ما دامت لا تنطوى على معصية ولا تدعو إلى معصية. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يسمح بدق الطبول، وهو الذى قال لنا: روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلّت عميت».وفى يوم أهدانى كتابا كان عنوانه غريباً بالنسبة لعلماء الأزهر، كان عنوان الكتاب «جدد حياتك» وكنت معتادا أن أتلقى كتباً عن «عذاب القبر» و«علامات القيامة».. إلخ، وكانت عناوين الفصول جديدة ليس فيها تكرار كما فى الكتب الصفراء، وليس فيها نقل عن فلان عن فلان عن فلان، فالموضوعات:(عش فى حدود يومك - كيف تزيل أسباب القلق - لا تدع التوافه تغلبك - لا تبك على ما فاتك - حياتك من صنع أفكارك - لا تنتظر الشكر من أحد - اصنع من الليمونة الملحة شراباً حلوا - بقدر قيمتك يكون النقد الموجه إليك - كن عصياً على النقد - حاسب نفسك).
هل رأيت شيخاً من شيوخ المنابر والفضائيات يتناول مثل هذه الموضوعات؟.. هل سمعت من يدعوك إلى تحسين تعاملك مع الحياة، ولا يكتفى بالترهيب من عذاب القبر والتقليل من أهمية الحياة الدنيا التى خلق الله كل ما فيها من أجلنا؟.. وهل تعرف شيخاً يقدم لك البراهين على أن الإسلام لا يخاصم العلم، وكل ما توصل إليه علماء النفس والاجتماع والفيزياء والعلوم الأخرى ليس فيه ما يتعارض مع الشريعة؟.. وهو يحذرنا من شيوخ الفتنة والجمود والرافضين للتجديد والتقدم.. إنه يدعونا إلى أن نجدد أفكارنا وعلومنا.. وأن نجدد حياتنا.. وأن نجدد علاقتنا مع الله ومع الطبيعة.. ونرفض الفكر المنحرف، وقال عنهم:«ما أكثر الذين تتسع ضمائرهم للكبائر»! وفى رأيه أن آفة الأديان أن أكثر رجالها لا يصلحون لإدراك رسالتها، كما لا يصلح المريض فى ميدان القتال، والتاريخ سجل هزائم كثيرة للطوائف التى تسمى رجال الدين وأراد بعض الحمقى أن يحول هذه الهزائم إلى نكتة تصيب الدين نفسه، وهذا ظلم شنيع لأن هزيمة هذه النماذج المصطنعة للتدين هى انتصار للطبيعة المتمردة على الغباء. سوف تجد من يعرض عليك الدين مشوها بالفوضى فى فقه النصوص وتحريف الكلم عن مواضعه، وهذا هو المرض الذى يفسد الديانات، وشيخنا يقول: ربما لا نستطيع حماية الدين من أصحاب الفكر العليل، فلا أقل من أن يتقدم أصحاب الفكر السليم، وكثير من الناس لا يزالون بعيدين عن الإسلام نتيجة تضليل هؤلاء الجهلاء الذين يدّعون أنهم وحدهم العالمون بمراد الله.. والنتيجة أن الانحطاط الفكرى فى البلاد المحسوبة على الإسلام يثير الحزن.. لأن تعاليم الإسلام تتطابق مع أصدق ما وصلت إليه حضارة الغرب فى أدب النفس والسلوك.
ابدأ صفحة جديدة.. الآن
يقول الشيخ الغزالى - رحمه الله - إن الإنسان قد يحب أن يبدأ صفحة جديدة من حياته، ولكنه يربط هذه البداية بموعد معين.. مع بداية السنة.. أو مع عيد ميلاده القادم.. أو عندما تتحسن حالته.. وهذا التسويف انتظارا لموعد أو مناسبة مجرد وهم، ودليل على ضعف الإرادة، لأن تجدد الحياة ينبع من داخل النفس، فالإنسان يستطيع أن يملك نفسه، ويملك وقته، ويمكنه أن يحتفظ بحريته، ويقدر بقواه الكامنة على عمل الكثير دون انتظار مدد او مساعدة خارجية.. وكل تأخير للبدء فى تحسين حياتك قد يكون طريقا إلى انحدار أشد، ويقول: إننى فى كل فترة أنظر إلى أدراج مكتبى لأراجع ما فيها، وأنظم الفوضى من قصاصات متناثرة وملفات مبعثرة وأوراق أدت الغرض منها، وأرتب كل شىء فى وضعه الصحيح وألقى فى سلة المهملات ما لا معنى للاحتفاظ به، وفى البيت.. تصبح الغرف مرتبكة بعد يوم كامل، ولكن الأيدى تعمل هنا وهناك لتنظيف الأثاث وجمع القمامة، فيعود إلى كل شىء نظامه، ألا تستحق حياة الإنسان مثل هذا الجهد، فترى ما فى حياتك مما يستحق إعادة الترتيب لتعيد إلى نفسك توازنها.. وتجديد الحياة ليس مجرد إضافة بعض الأعمال الحسنة وسط العادات السيئة.. وليس يقظة ضمير مؤقتة، ثم يعود الضمير بعد ذلك إلى سباته.
ثم لماذا تشعر بالقلق من المستقبل.. والعاقل من يركز على إنجاز ما لديه من عمل اليوم.. واستعجال المشاكل قبل أن يحين موعدها حماقة كبيرة، وغالباً ما يكون ذلك من الأوهام والتشاؤم، وحتى لو كان للتشاؤم أسباب معقولة فإن إفساد الحاضر بشئون المستقبل خطأ، لأن ذلك يضيع على الإنسان الحاضر والمستقبل معا.. وبعض الناس لا يدرك قيمة النعم التى أنعم الله بها عليه ويستهين بما لديه ويشعر بالحرمان، وهذا الشعور يملأ نفسه بالسخط والحسرة والإحباط مع أن ما لديه يكفى ليشعر بالرضا ويستمتع بحياته.. روى أن رجلاً سأل عبد الله بن عمرو بن العاص: ألست أنا من فقراء المهاجرين؟ فسأله عبد الله: هل لك امرأة تأوى إليها؟ قال: نعم، وسأله: هل لك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال له عبد الله: فأنت إذن من الأغنياء.. فأضاف الرجل: وعندى خادم، فقال له عبد الله: أنت من الملوك! هذا يعنى أن الشعور بما لدى الإنسان يجعله يشعر بالرضا ويعيش هادئ النفس قادراً على تحقيق المزيد.. وأن تعيش يومك لا يعنى عدم الاهتمام بالمستقبل والاستعداد له، فالعاقل من يفكر ويخطط للمستقبل دون أن يحرم نفسه من أن يعيش فى الحاضر وما فيه من عوامل الرضا.. وكما قال حكيم:(ما أعجب الحياة! يقول الطفل: متى أشب وأصبح غلاما؟، ويقول الغلام: متى أصبح شاباً؟ ويقول الشاب: متى أتزوج؟ فإذا تزوج، قال متى اتفرغ من عملى ومن أعباء الحياة واستريح؟ فإذا جاءته الشيخوخة وعاد ببصره إلى المرحلة التى قطعها من عمره فيجد أنها مرت وكأن الريح اكتسحتها.. هكذا نحن.. نتعلم بعد فوات الأوان أن قيمة الحياة فى أن نحياها، ونعيش كل يوم منها وكل ساعة).
لا تترك نفسك للأوهام
من الناس من يسير بغير وعى، ويعيش فى الدنيا فريسة «خداع النظر» فى تقديره للحقائق، ويترك نفسه للمشاعر السلبية والمخاوف مما يخبئه المستقبل أو ما يدبره له الآخرون، والأفضل للإنسان أن ينظر بموضوعية إلى حقائق حياته ولا يترك مشاعره - بالحب والكراهية - تلون الحقائق وتضلل العقل فلا يستطيع أن يراها على حقيقتها. وبالتالى لا يحسن التعامل معها ولا يستطيع حل مشكلات الحياة التى تقابله.. ويحذرنا العقلاء من أن نترك أهواءنا تضللنا فنختار من الحقائق ما يتفق مغ أفكارنا وأهوائنا، ونفعل مالا يرضينا، وكان أديب فرنسا الكبير «اندريه موروا» يقول: كل ما يتفق مع ميولنا ورغباتنا يبدو معقولا فى أعيننا، وما يتناقض مع رغباتنا فإنه يثير فينا الغضب، لذلك يصعب علينا الوصول إلى حل مشكلاتنا! وما العلاج؟ العلاج أن نفصل بين مشاعرنا وعواطفنا وبين تفكيرنا ونعوّد أنفسنا على رؤية الحقائق كما هى دون حذف أو إضافة.
يقول الشيخ الغزالى إن الإنسان الناجح هو الذى يشعر بالسكينة، وبالهدوء النفسى، ولا يترك نفسه نهبا للاضطراب فى الأزمات، السكينة تسمح بالتفكير الهادئ المتزن، فيرى الإنسان أن هناك لكل مشكلة عددا من الفروض لحلها، والعاقل من يختار أقرب الفروض إلى السكينة ولا يجعل نفسه نهباً للانفعال أو الغضب أو القلق أو الخوف.. العاقل من يدرك أن الذى ينهزم أو يفشل هو الذى ينهزم داخل نفسه ويسيطر عليه هاجس الفشل، ومن يثق بنفسه وبقدرته على النجاح فعلا.. صدق الشيخ الغزالى فإن النموذج على ذلك ما تحقق من نصر فى حرب أكتوبر (العاشر من رمضان) كان القادة والضباط والجنود كلهم يريدون النصر ويرفضون الهزيمة.. كانوا واثقين من قدرتهم على النصر.. كانت فكرة النصر هى المسيطرة على عقولهم، ولو كان للهزيمة مكان فى فكرهم وروحهم لما تحقق النصر.. هكذا أنت وأنا.. بعد أن ترى الحقائق بموضوعية وبدون انحياز، وبعد أن تستعرض البدائل لحل كل مشكلة وتختار منها أكثرها واقعية وأقربها إلى تحقيق الهدف.. يبقى العامل النفسى.. الثقة بالنفس.. وإذا عرفت طريق الصواب فافعله فورا.. افعل.. افعل.. لا تكتفى بالكلام عن الفضيلة والأخلاق والتواضع وحب الناس.. فليكن عملك موافقا لكلامك ولا تكن من الذين يقولون ما لا يفعلون فهؤلاء لعنهم الله فى كتابه الكريم.
والخلاصة أن حياتك بين يديك تستطيع أن توجهها ولا تتركها لرياح الأوهام وأفكار الضلال.