مع الإمام الأكبر الشيخ الطنطاوي1
بدأت علاقتي بالإمام الأكبر الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوي منذ عين مفتيا, وحين كنت رئيسا لدار المعارف كان يزورني كثيرا, وكانت دار المعارف في ذلك الوقت تنشر وتوزع كتبه, وكان ـ تفضلا منه ـ يطلب مني الاشتراك في ندواته في مناسبات عديدة ولقاءاته مع البابا شنودة, ومع الهيئة الانجيلية .
كما كان لي شرف مصاحبته في زيارات إلي الولايات المتحدة, وألمانيا, وبريطانيا, وباكستان, والهند, ورأيت كيف يحظي بالاحترام الشديد شعبيا ورسميا في كل بلد. خاصة في لقائه مع نائب الرئيس الأمريكي, ومع رؤساء هذه الدول, باعتباره عالما دينيا يمثل سماحة الإسلام, وصاحب عقلية متفتحة يطبق عمليا حقيقة أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان, ويعمل بما عمل به الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ كلما اختار بين رأيين من الآراء الفقهية اختار أيسرهما, ويردد قول النبي عليه السلام: يسروا ولا تعسروا.. وخلال السنوات التي عمل فيها مفتيا وشيخا للأزهر حارب الإرهاب والمفاهيم المنحرفة عن الجهاد وعن علاقة المسلمين بأصحاب الديانات والعقائد الأخري, وعن تصحيح العلاقة بين العقل والنقل.
عندما عين مفتيا في أكتوبر1986 كان مقر دار الافتاء في شقتين في مساكن شعبية قديمة في العباسية, فأصر علي بناء دار تليق بمكانة هذه المؤسسة الإسلامية, وظل يسعي إلي أن حصل علي تخصيص الأرض والميزانية, وأشرف بنفسه علي بناء دار الافتاء الحالية وكان فضيلته يجلس علي الرصيف تحت مظلة يتابع خلطة الأسمنت قبل صب المسلح ويشرف علي عملية البناء ويناقش المهندسين ويطلب مواصفات خاصة للمواد والتشطيبات, ويراجع فواتير الشركة المنفذة ـ وهي قطاع عام ـ ويخصم ويصحح, وفي النهاية أصبح لدار الافتاء صرح مشرف يتحدي الزمن. وعندما صار شيخا للأزهر كرر ذلك وأقام صرحا مشرفا آخر يليق بمكانة الأزهر العالمية, وفتح أبوابه للجميع, ووضع تقليدا جديدا هو عقد القران فيه في إطار ديني, وفعل ذلك من قبل في دار الإفتاء, وصارت العائلات تري في ذلك تبركا وشرفا يعطي للمناسبة مهابة وقدسية.
والذين هاجموا بعض فتاويه لم يدركوا أنه كان يدرس المسألة في المذاهب المختلفة, ويناقشها مع عدد من كبار أساتذة الفقه علي رأسهم فضيلة الشيخ عبدالرحمن العدوي المعروف بعلمه الواسع في مسائل الفقه الدقيقة. وهنا يجب أن نفرق بين الفتوي التي كان يصدرها وبين الأقوال المرسلة التي كان يلتقطها بعض الصحفيين ويسارعون بنشرها وأحيانا يضيفون إليها ويثيرون زوبعة حولها لمجرد الإثارة الصحفية.
وكنت شاهدا علي الفتوي التي أصدرها عن معاملات البنوك, فقد شكل لجنة كان من بين أعضائها محافظ البنك المركزي, ورئيس البنك الأهلي, ورئيس بنك الإسكندرية, وثلاثة من أساتذة الأزهر, وثلاثة من أساتذة الاقتصاد والادارة المالية, وشرفني بعضويتها. وظلت هذه اللجنة تجتمع وتناقش تفاصيل العمل في البنوك, وقام بنفسه بزيارات للتعرف علي سير العمل في البنوك الإسلامية والتجارية وما تقوم به من أنشطة وخدمات.
وفي النهاية لم يقل إن كل معاملات البنوك والمصارف حلال, ولكن قال إن منها ما هو حلال ومنها ما هو حرام, وإن الاختلاف بين الفقهاء يرجع إلي عدم وضوح معاني الألفاظ, وبخاصة لفظ الوديعة. فالوديعة بالمفهوم الشرعي هي ايداع المال أو الشيء لدي شخص أو بنك علي سبيل الأمانة, وعليه أن يحفظها وله أن يحصل علي أجر مقابل حفظه لها, وهذا ينطبق علي الحساب الجاري, وعلي تأجير الخزائن في البنوك, أما أن يذهب شخص إلي البنك ويقدم له المال الذي يسمونه وديعة فإنه في الحقيقة يعطي البنك وكالة مطلقة في استثمار هذا المال, والبنك يستثمر مجموع الأموال في مشروعات تدر في مجموعها ربحا وفقا للدراسات الفنية التي يجريها خبراؤه, أما تحديد الربح مقدما فإن هناك رأيا بأنه غير جائز, ورأيا بأنه جائز, ورجح الدكتور طنطاوي الرأي الثاني لأن التحديد يتم برضا الطرفين وليس فيه غش أو اكراه, ويضمن لصاحب المال حقه في زماننا الذي ازداد فيه الطمع وضعفت الذمم. ومن كبار أساتذة الفقه المحدثين من أباح هذه المعاملة وأباح تحديد الربح, وإذا قيل إن البنك قد يخسر في مشروع فانه يكسب في مشرعات أخري وميزانيات البنوك تدل علي تحقيق أرباح كبيرة من استثماراتها. وتشارك البنوك في مشروعات انتاجية كثيرة تفيد البلد وتفتح باب الرزق الحلال لمئات الآلاف.
لم يقل الشيخ الجليل إن الربا حلال ولكنه حدد مفهوم الربا ومفهوم القرض في الشريعة. القرض يكون لمن يحتاج إلي الطعام أو العلاج أو غيرهما من ضرورات الحياة. والربا هو طلب الزيادة عند رد القرض ووجود استغلال لحاجة المحتاج..
هذه الآراء سبقه إليها علماء لهم قدرهم منهم الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق, والشيخ عبدالجليل عيسي عميد كلية الشريعة الأسبق, والشيخ محمود الخفيف, والشيخ عبدالوهاب خلاف, والدكتور محمد عبدالله دراز, وغيرهم من كبار أساتذة الفقه.
أسس الدكتور طنطاوي رأيه علي أسانيد شرعية واعتبارات عملية منها: أن البنوك والمصارف لا غني عنها لأي مجتمع في هذا العصر, والواجب أن نرشدها إلي الطريقة التي أحلها الله فيما تقدمه من أنشطة اقتصادية وخدمات مالية, بدلا من أن نهدمها ونضر بالاقتصاد القومي.