المرأة في مجلس الدولة

أكثر من نصف قرن والجدل مستمر حول تعيين المرأة في مجلس الدولة‏,‏ حتي بعد أن صارت المرأة قاضية في محاكم وزارة العدل‏,‏ وأثبتت جدارتها في محاكم الأسرة والمحاكم الجنائية والاقتصادية‏,‏ بل وفي المحكمة الدستورية العليا‏.‏


في مجلس الدولة قرر المجلس الخاص منذ‏6‏ أشهر ـ وهو أعلي سلطة إدارية في المجلس ـ تعيين خريجات كليات الحقوق بالمجلس بنفس الشروط التي تنطبق علي الذكور‏,‏ وبعد هذه المدة أصبح القرار محصنا ولا يجوز الطعن فيه‏,‏ ولكن عددا من كبار المستشارين طلبوا أخيرا عقد جمعية عمومية لمستشاري المجلس لإعادة بحث هذا القرار‏,‏ علي الرغم من أن الخريجات اللاتي تنطبق عليهن الشروط تقدمن منذ فترة بأوراقهن‏,‏ وتم اختبارهن‏,‏ وحاز بعضهن درجات وتقديرات أعلي من أقرانهن الذكور‏.‏ 

وليس في الأمر جديد‏..‏ فما يحدث في مجلس الدولة حدث منذ أكثر من نصف قرن حين تقدمت الدكتورة عائشة راتب بعد تخرجها من كلية الحقوق بتقدير ممتاز ورفض المجلس تعيينها علي أساس أن الشرع الإسلامي لا يسمح بتولي المرأة القضاء‏,‏ ورفعت الدكتورة عائشة دعوي أمام محاكم مجلس الدولة‏,‏ وساقت الحجج الشرعية والقانونية التي تثبت أحقيتها في التعيين‏,‏ ولكن الدكتور عبدالرزاق السنهوري ـ رئيس المجلس في ذلك الوقت ـ حكم برفض الدعوي‏,‏ وقال في أسباب الحكم إن الرفض يرجع إلي الملاءمة وليس لسبب آخر‏,‏ لأن المجتمع المصري لم يصل إلي الدرجة التي تجعله يتقبل جلوس المرأة علي منصة القضاء والحكم‏.‏ 

وتكررت القصة مرة أخري في سنة‏1971‏ عندما تقدمت الأستاذة هانم محمد حسن بطلب للتعيين في وظيفة مندوب مساعد بالمجلس‏,‏ وهي حاصلة علي ليسانس الحقوق بدرجة جيد وعلي دبلوم الدراسات العليا في العلوم الإدارية‏,‏ ودبلوم في القانون العام‏,‏ ودبلوم في القانون الخاص‏,‏ ومع ذلك حرمت من التعيين‏,‏ وتم تعيين من لا يحملون مثل مؤهلاتها‏,‏ وقدمت تظلما قالت فيه إنها حرمت من حقها المشروع وليس في القوانين ما يمنع من تعيينها‏,‏ وإن هذا الحرمان مخالف لنصوص الدستور‏,‏ ولم تجد أمامها هي الأخري إلا رفع دعوي أمام مجلس الدولة لإلغاء قرار مجلس الدولة واكتملت المفارقة بأن كان محاميها في القضية هو المرحوم المستشار عبدالعزيز الببلاوي‏,‏ الذي كان رئيسا لمجلس الدولة قبل اشتغاله بالمحاماة‏,‏ وهو بالمناسبة والد الاقتصادي الكبير الدكتور حازم الببلاوي‏,‏ وقال المستشار الببلاوي إن المجلس استند في حرمان الأستاذة هانم إلي أمرين‏,‏ أولهما‏:‏ العرف‏,‏ وثانيهما‏:‏ التصور الشائع بأن الشريعة الإسلامية تمنع تولية المرأة القضاء‏.‏ 

عن العرف‏..‏ قال إن القاعدة القانونية المستندة إلي العرف لا يجوز أن تعارض نصا في القانون والدستور‏,‏ ومع ذلك فإن سيادة العرف بحرمان المرأة من بعض الوظائف لم يكن في الحقيقة بسبب العرف ولكن كان بسبب تخلف المرأة عن الرجل في التعليم في عصور الظلام‏,‏ ولكن الوضع تغير مع تقدم المجتمع‏,‏ وقد أصبحت المرأة تحصل علي قدر من العلم يتساوي مع الرجل وربما تتفوق عليه‏,‏ وفتحت أمامها أبواب العمل في التدريس العام والجامعي‏,‏ وفي الطب‏,‏ والمحاماة‏,‏ والهندسة‏,‏ وصارت خبيرة في وزارة العدل‏,‏ وعملت في الطب الشرعي وهو عمل شاق وله أهميته البالغة في القضايا الجنائية‏,‏ وهذا يعني أن العرف لم يمنع من تولي المرأة شأنا من الشئون العامة‏,‏ وجميع الدساتير المصرية منذ دستور‏1923‏ لم تنقص حقا من حقوق المرأة وقد منحها دستور‏1956‏ حق الانتخاب والترشيح لعضوية مجلس الأمة فأصبحت المرأة عضوا في السلطة التشريعية التي تضع القوانين للبلاد ومجلس الدولة وسائر الهيئات القضائية تلتزم بتطبيق هذه القوانين‏,‏ وليس من المعقول ولا من الملاءمة أن يكون مسموحا للمرأة بعمل القوانين ولا يسمح لها بتطبيق هذه القوانين ولا بإبداء الرأي والفتوي في المسائل التي تحتاج إلي معرفة حكم القانون فيها‏,‏ وليس معقولا أن تكون أستاذة بكليات الحقوق وتدرس لطلبة سيكون منهم قضاة‏,‏ فكيف تكون أستاذا للقاضي ويعتمد علي مؤلفاتها وآرائها وتحكم علي صلاحيته ثم لا تصلح لأن تكون قاضية‏,‏ والدستور ينص علي أن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات العامة‏,‏ ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس‏,‏ وعلي ذلك فليس هناك عرف يمكن أن يعلو الدستور ويحرم المرأة من حق من حقوقها الدستورية‏.‏ 

أما عن أحكام الشريعة الإسلامية‏,‏ فهي تساوي بين الرجل والمرأة‏,‏ وإن كانت تعطي للمرأة في الميراث نصف ما تعطيه للرجل في بعض الحالات وليس في كل الحالات‏,‏ فذلك مقابل إلزام الرجل بالإنفاق عليها‏,‏ وقد سبق أن ناقش الإمام الأكبر الراحل الشيخ محمود شلتوت هذه المسألة في كتابه الإسلام عقيدة وشريعة وأثبت بالأدلة أن الشريعة تؤكد المساواة وتحظر حرمان المرأة من حقوقها بسبب جنسها‏,‏ ولا فضل ولا ترجيح للرجل علي المرأة ولا استثناء‏,‏ والقول بأن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل‏,‏ فذلك في حالة واحدة فقط‏,‏ هي المعاملات المالية‏,‏ ولم تكن المرأة تشتغل بالمسائل المالية‏,‏ ولكن هناك من القضايا ما تقبل فيه شهادة المرأة وحدها‏,‏ وعلينا أن ننتظر ما تسفر عنه المجادلات في مجلس الدولة‏..‏ وقد طالت لأكثر من نصف قرن‏.‏



 



جميع الحقوق محفوظة للمؤلف