مع الشيخ الغـزالى ((2))


كان الشيخ الغزالى يحذرنا من الدعاة الأدعياء.
وكان شيخنا عليه رحمه الله يحذر الأمة فى أحاديثه وكتاباته من أقوام بصرهم بالقرآن كليل، وحديثهم عن الإسلام جرىء، واعتمادهم كله على مرويات لا يعرفون مكانها من الكيان الإسلامى، وكان ينبه إلى أن هؤلاء الدعاة الجدد هم أدعياء، لأن ادعاءهم بأنهم فقهاء ليس قائما على سند صحيح، فإن الفقهاء الحقيقيين المحققين إذا أرادوا بحث قضية ما جمعوا ما يتصل بها من الكِتاب والسُنّة، ونظروا فيما جاء على سبيل القطع وما ذكر على سبيل الظن والتخمين، ثم فاضلوا بين الأدلة ليقيموا عليها الحكم الشرعى، ولو نظرنا إلى من يدّعون أنهم دعاة أو فقهاء، فى هذا الزمان فسوف نجد كثيرا منهم ليسوا كذلك.دعاة الفضائيات والاستيلاء على المنابر منهجهم كما كان شيخنا يرى هو اختطاف الحكم من حديث عابر، والجهل، أو الإعراض عما ورد فى الموضوع من آراء.. ويضرب شيخنا مثلا على هؤلاء الدعاة الأدعياء بما حدث فى الجزائر عندما كان الشيخ الغزالى هناك أستاذا للفقه والشريعة، فقد ظهرت فتوى لواحد من أهل الحديث المشهورين بأنه ليس على التجار أن يخرجوا الزكاة على بضائعهم، وقالوا إن الزكاة على التجارة ليس لها أصل فى الشريعة، ولم يلتفتوا إلى قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض» البقرة 277 - وأضاف هؤلاء إلى فتواهم أن الزكاة فى الزراعة لا تخرج إلا من القمح والشعير والتمر والزبيب، وكأن الكرة الأرضية لا تعرف من المحاصيل إلا ما كانت تعرفه شبه الجزيرة العربية.
قال الشيخ الغزالى إن هذه الفتوى كادت تصيب الإسلام والمسلمين فى الجزائر بضرر شديد وتضر الفقراء الذين تذهب إليهم الزكاة، ووجد نفسه مضطرا للتصدى لهؤلاء الذين يصدرون الفتاوى بغير عِلم كاف.. ولا يدركون أنه «لا فقه مع العجز عن فهم الكتاب، ومع العجز عن فهم ظروف الحياة نفسها»، وهؤلاء يجدون أن دراسة القرآن تحتاج إلى مجهود وصبر للتعرف على دلالاته القريبة والبعيدة، فيلجأون إلى الاستسهال والاكتفاء بسماع حديث ما، ثم يختطفون الحكم الشرعى منه فيشقى البلاد والعباد.
ويحكى شيخنا أنه حين كان فى الجزائر سأله طالب: هل صحيح الحديث الذى يقول إن موسى عليه السلام فقأ عين ملك الموت عندما جاء ليقبض روحه بعد أن انتهى أجله؟ فقال للطالب وهو ضيق الصدر: وماذا يفيدك هذا الحديث فهو لا يتصل بعقيدة ولا يرتبط به عمل، فالأفضل أن تشغل نفسك بما هو أهم.. ولكن الطالب عاد ليسأل الشيخ: هل الحديث صحيح أم لا؟ فأجابه الشيخ: الحديث مروى عن أبى هريرة، وقد جادل البعض فى صحته، فهو صحيح من حيث السند، ولكن المتن - أى المضمون - يثير الريبة، لأنه يعنى أن نبى الله موسى يكره الموت ولا يحب لقاء الله بعدما انتهى أجله، وهذا المعنى مرفوض بالنسبة للصالحين من عباد الله كما جاء فى حديث آخر: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه» فكيف بأنبياء الله؟ وكيف بموسى وهو من الأنبياء أولى العزم، ثم هل الملائكة يمكن أن يصابوا بالعاهات مثل البشر؟
وأخيراً أجاب الشيخ: مضمون الحديث معلول، وليس لدى ما يدفعنى إلى إطالة الفكر فيه.
دعاة ينشرون التشدد والخرافات والتكفير
هكذا كان شيخنا الغزالى، يدقق فى فحص كل حديث منسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتأكد أولا من السند أى من أن سلسلة رواة الحديث ليس فيهم شك، فكل راو كان معاصرا لمن كان قبله وسمع منه، وكل راو مشهور عنه (فى كتب الرجال وسيرة الرواة) الصدق والأمانة والدقة، وقوة الذاكرة، وبعد ذلك ينظر هل يتفق مضمون الحديث مع ما جاء فى القرآن أو يختلف عنه، فإن وجد اختلافا ترك الحديث جانبا ولم يعتمد عليه فى معرفة الحكم الشرعى، ولكن الغريب أن الشيخ الغزالى وجد فى كتب التراث رأيا يقول صاحبه إن من ينكر هذا الحديث - عن موسى وملك الموت - يعتبر ملحدا.. إلى هذا الحد نجد فى كتب شراح الأحاديث القدماء من يستهل توجيه الاتهام بالكفر على من ينكر حديثا يتعارض مع القرآن ومع المنطق والعقل.
والقصة تصلح نموذجا لما يفعله بنا الدعاة الأدعياء ورجال الفتوى بغير تعمق فى العلم.. ولذلك شرح لنا الشيخ الغزالى الموضوع بالتفصيل، والحديث كما يلى: عن أبى هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «جاء ملك الموت إلى موسى - عليه السلام - فقال له: أجب ربك (أى استعد للموت) فلطم موسى - عليه السلام - عين ملك الموت ففقأها، فرجع الملك إلى الله تعالى فقال: إنك أرسلتنى إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عينى، فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إلى عبدى فقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور (ظهره) فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بها سنة، قال (موسى): ثم مه (ثم ماذا يكون) قال: ثم تموت. قال (موسى): فالآن من قريب، رب أمتنى من الأرض المقدسة رمية بحجر». قال «المازرى» وهو من شرّاح الأحاديث: «وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث وأنكر تصوره. وقالوا كيف يجوز على موسى أن يفقأ عين ملك الموت، واستطرد «المازرى» فى الدفاع عن صحة هذا الحديث بما قاله بعض العلماء بأن يكون الله قد أذن لموسى بهذه اللطمة، ويكون ذلك امتحانا لملك الموت والله يفعل فى خلقه ما يشاء ويمتحنهم بما أراد! ورأى آخر: أن الرواية تشير - على سبيل المجاز - إلى أن موسى غلب ملك الموت بالحجة وبالمنطق، وكما يقال إن فلانا فقأ عين فلان إذا غلبه بالحجة والدليل، ويقال هذا الشىء فيه عور أى فيه نقص - وعلق شارح الحديث (المازرى) على الرأى الثانى فرأى أنه رأى ضعيف لأن الحديث يقول: فرد الله عينه» ومن المستبعد أن يكون المقصود أن الله رد حجة موسى، وذكر (المازرى) رأيا ثالثا لأحد علماء الحديث بأن موسى لم يعلم أن ملك الموت من عند الله، وظن أنه رجل يريد نفسه (أى يريد قتله) فدافعه فأدى ذلك إلى أن فقأ عينه دون قصد، وهذا ما قاله الإمام أبى بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين واختار هذا الرأى من كبار علماء الحديث المازرى، والقاضى عياض.
ويعلق شيخنا الغزالى على هذا الدفاع عن الحديث بأنه دفاع تافه وغير مستساغ، ومن رأى أن من ينكر هذا الحديث ملحدا وكافرا فهو يستبيح أعراض المسلمين، والحق: أن فى متن هذا الحديث علة تنزل به عن مرتبة الصحة، ورفض هذا الحديث أو قبوله - كما يقول الشيخ الغزالى - هو خلاف فكرى وليس خلافا عقائديا، والعلة فى مضمون الأحاديث يدركها المحققون وتخفى على أصحاب الفكر السطحى.. ومثل هذا الحديث تشغل الناس عن جوهر العقيدة وعن السبيل لإصلاح أحوالهم فى الحياة وعمل الخير للآخرة.. وفى كتب الأحاديث كثير من الأحاديث المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم وإذا نظرنا إليها بالرجوع إلى القرآن أولا وإلى الأحاديث الصحيحة ثانياً وإلى العقل والمنطق ثالثا لابد أن ندرك عدم صحتها، فسوف نجد فى الكتب عشرات الأحاديث التى لا تصمد للفحص بالمنهج العلمى، وقد ذكر الشيخ الغزالى أن فى كتاب «الترغيب والترهيب» للمنذرى رحمه الله ستة عشر حديثا فى تفضيل سكنى الشام مثل الحديث: عن زيد بن ثابت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «طوبى للشام، إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه» وبقية الأحاديث من رواية الترمزى، والحاكم، والطبرانى، وابن حيان، وأبى داود، وأحمد.. يقول الشيخ الغزالى: إن دارالسلام مهددة الآن والغزاة حولها، وفلسطين اليوم أحق من غيرها.
إذن، فليس صحيحا كل ذلك أن كل ما يلمع ذهبا.. وأن كل صاحب لحية طويلة داعية بحق، ولا أيضاّ كل من يطلون علينا من الفضائيات ويطلقون الفتاوى التى تغرس فى الناس التشدد وتضّيق عليهم فى أمور حياتهم، وتحكم على كل شىء بأنه حرام، ويستسهلون اتهام من يختلف معهم بالكفر، والاتهام بالكفر شىء عظيم، قد ينتهى بقائله إلى جهنم وبئس المصير إن كان على غير أساس ودليل ويقين.. ولهذا كان شيخنا الشيخ الغزالى يقول: إن اليقين الثابت بالعلم وبالوحى لا يجوز أن يتقدم عليه الظن الذى يتمثل فى حديث الآحاد.. فإن أحاديث الأحاديث تتأخر حتما أمام النص القرآنى والحقيقة العلمية والواقع التاريخى..
ولكن الدعاة الأدعياء فى الفضائيات يعتمدون على أحاديث الآحاد التى حكم علماء الحديث بأنها ضعيفة.. ويلتقطون عبارة من هنا أو من هناك من الكتب القديمة وهم لا يملكون الخلفية العلمية والمنهج العلمى فى النظر إلى ما يقوله الأقدمون.
هؤلاء الدعاة خطر على الإسلام والمسلمين.. ويبقى للإسلام الدعاة الحقيقيون.. أهل العلم الصحيح.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف