هناك روح شريرة نفثت سمومها وأوقعت الجميع في معارك لم ينتصر فيها أحد لأنه لم يكن للنصر فيها ما يستحق ما أصاب النفوس من خسائر.
لم يكن طبيعيا أن تتحول مباراة كرة إلي مواجهة ترتب عليها تدمير بعض المنشآت المصرية وتهديد المصريين المقيمين في البلد الشقيق, وحضور وزراء, واستدعاء سفراء, وتبادل اتهامات, وصخب إعلامي فاق الحدود جعل جهاد الخازن يقول إن هذه المباراة لم تكن رياضة وإنما حرب مع أن اللاعبين في الملعب تصرفوا بشكل أفضل من وسائل الإعلام والمسئولين وأنصار الفريقين, إلي حد وصف صحيفة جزائرية حادث رشق سيارة اللاعبين الجزائريين في القاهرة بأنه مجزرة ثم تبين أن الحادث مفتعل لم يصب أحد من اللاعبين بسوء, وأن اللاعبين وجمهورهم هم الذين أثاروا الشغب في مطار القاهرة في أثناء مغادرتهم له.
وقد تعددت الاجتهادات في تفسير الحالة التي صاحبت المباراة خاصة ظاهرتين تستحقان التوقف أمامهما طويلا لاستخلاص الدلالات والاتجاهات السيكولوجية والسياسية فيهما, أولاهما ظاهرة الاحتشاد الشعبي في البلدين بصورة تفوق ما تستحقه مباراة كرة لن تنتهي بالحصول علي الكأس ولكنها تعطي الفرصة للفريق الفائز بأن يستمر في مباريات أخري قد يكسب فيها أو يخسر. والظاهرة الثانية هي التعصب الذي كشف عن عدم صحة ما يقال عن الروح الرياضية وكشف عما هو أخطر وهو أن الإعلام يشعل نيران التعصب القطري بدلا من أن يدعم الانتماء القومي
ويكشف أيضا عن أن اهتمام الشعوب العربية بكرة القدم أقوي مئات المرات من اهتمامها بالاحتشاد من أجل مشروع قومي للبناء والتحديث, أو الالتفاف حول القضايا الوطنية وفي مواجهة الأخطار التي تهدد الدول العربية دون استثناء, والشكوي عامة من سلبية الجماهير في هذه المجالات.
البعض فسر هذه الحالة تفسيرا سياسيا ورأي في هذا الانفعال الزائد تعبيرا عن الوطنية والانتماء والالتفاف حول العلم, والبعض فسرها بأنها تعبير عن الجوع إلي وطن والاحتياج إلي فرحة, والبعض رأي أن ما جري هو الأمر الطبيعي وأنه لا صوت يعلو علي صوت كرة القدم وهو الشعار الذي كان في وقت من الأوقات لا صوت يعلو علي صوت المعركة معركة تحرير الأرض التي احتلها الإسرائيليون, والبعض فسرها بأن الناس يجدون في كرة القدم ما لم يجدوه في مجالات أخري مثل الشفافية, والمساءلة, وتداول السلطة, والبعض فسر هذه الحالة بأنها تعبير عن التحول التاريخي ودليل علي أن المباريات المصرية أصبحت جزءا من الفضاء الرياضي العالمي..
وفي رأي آخر أن المباراة أدت إلي انهيار السد الذي كان يحبس وراءه حجما هائلا من المشاعر المكبوتة والأحلام الضائعة, وإلا فلماذا تتحمس الجماهير لدرجة الجنون من أجل كرة القدم ولا تتحمس بالدرجة نفسها أو قريبا منها في الانتخابات مثلا أو في الدفاع عن قضية اجتماعية أو انتصارا لمبدأ أو لحق من الحقوق الوطنية.. و هل الشعور بالانتماء للوطن يكون في حالة الكرة ولا يكون في غيرها؟! أما أعمال الشغب فهي ـ كما قيل ـ دليل علي حالة من الغضب والإحباط ومظهر من مظاهر عقدة البحث عن عدو في بلاد لا ينقصها الأعداء في كل مكان ولا يعرف العالم عنها غير العنف والتعصب!
بعض الصحف وصل به الشطط إلي حد الصدور بعناوين تم اختيارها بعناية لإثارة المشاعر. صحيفة في مصر كان عنوانها الرئيسي إعلان الحرب علي مصر في الصحافة الجزائرية وصحيفة في الجزائر كان عنوانها الرئيسي القاهرة أكثر جحيما من تل أبيب.. وقوات الاحتلال الإسرائيلي أفضل من قوات الأمن المصري ووصل الأمر إلي حد فبركة صورة لمشجع جزائري مقتول بين المصريين مع عنوان يقول: هذا ما فعله يهود مصر بالجزائريين وقالت صحيفة جزائرية إن حديث الأخوة بين المصريين والجزائريين أصبح نكتة بايخة وبعدها أعلن سفير الجزائر في القاهرة أن ما نشر عن مقتل جزائريين في القاهرة ليس له أساس من الصحة وأن الجزائريين لقوا معاملة أخوية في كل مكان!
ودخلت الفضائيات المعركة وأشعلتها نارا.. بعضها نفذ مخططا إعلاميا دقيقا لإثارة المشاعر والإيقاع بين الشعبين, وبعضها فعل ذلك أو قريبا منه بغباء ولمجرد جذب المزيد من المشاهدين, وبالتالي الحصول علي مزيد من الإعلانات.
لماذا وصلت الأمور إلي هذا الحد؟ لماذا تراجع صوت العقل وارتفعت أصوات الإثارة علي حساب المصالح الوطنية والقومية العليا. لماذا لم يدرك الجميع الفرق بين المنافسة والصراع وبين العدو والشقيق؟ لماذا لم يتذكر الجميع أن العروبة والإسلام يجمعان بين الشعبين المصري والجزائري كما جمعهما الكفاح المشترك ضد الاستعمار والتخلف والهيمنة الأجنبية والإرهاب؟
ولا أحد ينكر حق الجماهير في التفاعل مع الفريق الذي تؤيده, ولكن التشجيع شيء وتخريب العلاقات بين شعبين شقيقين شيء آخر, ومع ذلك فسوف تزول آثار هذه الحالة مع الوقت وستعود الروح الحقيقية التي تربط بين الشعبين برباط يستعصي علي المؤامرات.. ويكتشف الجميع أنه لا صوت يعلو علي صوت العقل, وأن مقادير ومصالح الدول ليست لعبة.