خلال العقود الماضية رفعت شعارات كثيرة تدل علي ارادة التغيير والتقدم مثل شعارات اليقظة, والبعث, والصحوة الكبري, واللحاق بالعصر لكن هذه الشعارات وغيرها لم تقترن بعمل حقيقي وجاد لتحويلها إلي عمل لصناعة واقع اجتماعي وسياسي واقتصادي جديد ينقل المجتمع المصري والعربي نقلة تجعله في موقع حضاري يتناسب مع تاريخه وثرواته وقدرات أبنائه.
لم تتحقق هذه الشعارات كما كان مأمولا لأن التحرك لم يبدأ من البداية الصحيحة, أي من إعادة بناء العقل وتجديده لكي يساير الانجازات ـ والمعجزات ـ التي حققتها الدول المتقدمة في مجالات الفكر والصناعة والتكنولوجيا وأسلوب الحياة. ولذلك بقيت الظواهر السلبية التي نشكو منها بسبب استمرار ما نسميه أزمة العقل العربي وهي أزمة لم يعمل القادة الثقافيون والسياسيون علي مواجهتها.
وكانت النتيجة أن العقل ـ المصري والعربي ـ لايزال إلي اليوم يدور في دوامات المشاكل الحياتية التي تزداد وطأتها دون أن يتوصل إلي حلول حاسمة للتخلص منها والتفرغ للبناء والتحديث, ولاتزال نفس الأسئلة المصيرية التي طرحت في القرون السابقة مطروحة إلي اليوم دون أن تتوصل المجتمعات العربية إلي اجابات صحيحة تسمح بالانتقال إلي ماهو أهم, وهذا ـ في رأيي ـ هو ما أدي إلي وقوفنا أمام عقبات تعوق تقدمنا ونحسبها عقبات يستحيل التخلص منها وهي ليست كذلك.
من مظاهر الأزمة مثلا أن العرب مازالوا يسألون أنفسهم منذ عقود وحتي اليوم نفس السؤال الابتدائي: من نحن؟ هل نحن ـ حقا ـ عرب تجمعنا روابط قد تؤدي بنا يوما ما إلي وحدة بشكل ما, ولو في ابسط صورها, أم نحن مسلمون نؤمن بحتمية وحدة الأمة الاسلامية من أفغانستان وباكستان واندونيسيا إلي أوزبكستان والبوسنة وتركيا وايران, إلي الدول العربية, لتقوم الخلافة وتحكم مليارا و200 مليون مسلم في افريقيا واسيا وأوروبا, أم نحن مصريون أولا أو سوريون وسعوديون أولا وماعدا ذلك مجرد شعارات. وبسبب استمرار الجدل حول امثال هذه القضايا لم يصل العقل العربي إلي التوازن والوضوح.
وزاد علي ذلك استسهال كل فريق سياسيا, أو دينيا, أو فكريا إلقاء تهمة من الاتهامات التقليدية الجاهزة علي كل من يخالفه, وما أسهل إلصاق تهمة الكفر, والعمالة, واستيراد كل فكرة أو دعوة جديدة من الخارج, وفي الجراب تهم أكثر لاتقل خطورة تلزم الآخر بالصمت أو بالاستسلام أو بالهروب خارج الحدود إلي حيث يستطيع أن يتنفس ويمارس حريته في التفكير والاعتقاد كحق من حقوق الانسان وأصل من أصول المجتمع المتحضر.. هذه الاتهامات التي تعوق وتعرقل خطوات التقدم تصدر عن توجهات معادية للعقل وللتفكير الحر, وتحيط الحوار حول القضايا الأساسية بألغام قابلة للانفجار تجعل الخوض فيها يكلف الانسان حريته وربما يكلفه حياته ذاتها.. ويكفي أن ننظر إلي ما يلاقيه أصحاب الدعوة إلي تحرير المرأة واعطائها حقوقها كانسان,
وما يلاقيه من يحسبون أنهم يستطيعون اعلان أفكارهم دون خوف, وما يلاقيه من يحاول وضع حدود لسلطة رجال الدين في شئون السياسة والحكم.. ونتيجة ما تمارسه جماعات لها نفوذ وتأثير علي قطاعات غير قليلة بسبب انتشار الأمية الدينية والسياسية, ونتيجة لعدم الوضوح, وللفشل في إعادة بناء العقل العربي تولدت ظواهر التعصب, والانغلاق الفكي عموما في أمور الدين, وفي أمور الحياة والفكر والثقافة والسلوك, وأدي ذلك بجماعات من المثقفين الحقيقيين إلي الانطواء والابتعاد عن معارك فارغة لا طائل من ورائها مع جماعات تعتقد أنها هي وحدها التي تمتلك الحقيقة وتحتكر الصواب وأنها الفرقة الناجية في النهاية.. هذه الجماعة ـ الضالة المضلة ـ تمارس احساسها بالتفوق, وترفض الحوار مع الآخر إلا اذا كان هدف الحوار هداية الآخر إلي الحق وإلي الصواب في تصورها.
ونتيجة لذلك يكتشف الآخر عدم جدوي الحوار, وقد يري أن الهجرة إلي بلاد الحريات هي الحل أو الهجرة في الداخل وكثير ممن تسببوا في الأزمة وقعوا أسري لجماعات قدمت لهم حلم العودة إلي الدولة الاسلامية في عصور نشأتها الاولي في صورة مثالية حين كان العالم مختلفا عن عالم اليوم, وكأن الدولة الاسلامية كانت دائما وعلي مدي التاريخ دولة الملائكة الأبرار ولم يكن فيها فساد أو سرقة أو رشوة او استغلال نفوذ او انحرافات أخلاقية أو مشاكل من أي نوع, وفي الوقت نفسه فإن التيار العقلاني الذي يؤمن بامكان التوفيق بين ثوابت الدين ومتغيرات الحياة وضرورات التقدم, لم يتقدم الصفوف, وتردد في خوض المعارك مع التيار الرجعي المؤمن بأفكار زمان غير زماننا.
ومع أننا قلنا وكررنا القول منذ عقود ومازلنا نكرره بأن بناء الانسان يجب ان يكون البداية للنهضة, إلا أننا لم ننجح حتي الآن في بناء الانسان وفق مواصفات العصر. وتلك هي المسألة.