مستقبل حركة عدم الانحياز

لاشك في أن اجتماع قادة وممثلي‏118‏ دولة هو في ذاته حدث له دلالات لاتخفي عن عيون المراقبين‏.‏ فهؤلاء القادة يمثلون نصف سكان العالم‏,‏ وقد اجتمعت ارادتهم علي إعادة الحياة الي حركة عدم الانحياز بمفهوم جديد يتفق مع هذه المرحلة فبعد مرحلة انتهاء النظام العالمي الذي كان في زمن الحرب الباردة بين قطبين يقتسمان القوة والنفوذ وتحديد مصير الدول‏,‏ وقيام نظام أحادي القطب قائم علي انفراد قوة واحدة بقيادة العالم تسببت في إشعال الحروب والأزمات نتيجة لسياسة القوة والهيمنة‏,‏ بدأ الآن بزوغ نظام عالمي علي وشك أن يتبلور‏,‏

وقد عبرت دول عدم الانحياز في قمة شرم الشيخ عن ضرورة الاستعداد لصياغة هذا النظام العالمي ليكون لها فيه المكان الذي تستحقه بما لديها من عوامل القوة التي لاينقصها الا التنسيق والتكامل والاتفاق علي رؤية موحدة للمستقبل‏.

‏وقد عبر عن ذلك مفكر استراتيجي أمريكي معروف هو جيمس هوج رئيس تحرير مجلة فورت أفيرز أشهر المجلات السياسية والاستراتيجية‏,‏ وفي رأيه أن انتقال القوة من الغرب الي الشرق بدأ يستجمع خطاه وسوف يغير قريبا سياق التعامل مع المشاكل والتحديات الدولية‏,‏ فلا يستطيع أحد أن ينكر تزايد قوة آسيا‏,‏ ولايبقي إلا أن تكتسب هذه القوة الوعي والاستعداد‏,‏ وهناك قوي يمكن أن تستكمل مقوماتها وتجمع إرادتها‏,‏ ومن مصلحة الدول الغربية أن تدرك هذا الواقع الجديد والا تكرر أخطاءها الماضية‏.‏

ففي مرحلة النظام الدولي الامبريالي لم تستطع ألمانيا واليابان وضع حدود لطموحهما في السيطرة علي ثروات العالم واختارا الصراع بينهما بدلا من التكيف معا وأدي ذلك إلي دمار واسع شمل أجزاء واسعة من العالم مازالت آثاره حتي اليوم‏,‏ واليوم من الواضح أن تغير النظام الدولي أحادي القطب سيكون أكبر ويتطلب ذلك افساح المجال للثقافات والسياسات والمصالح المختلفة دون تفرقة أو تمييز‏,‏ والتخلي عن نزعات التفوق والهيمنة‏,‏ ففي المرحلة القادمة ستكون الدول الكثيفة السكان هي الأكثر طموحا‏,‏ وستكون قوي عالمية ذات نزعات قومية ومصممة علي تعويض سنوات الماضي التي ظلت تعاني فيها من ظلم القوي الكبري

فالقوة الاقتصادية لدول آسيا بدأت تترجم نفسها إلي قوة سياسية وعسكرية‏,‏ ولديها مشاكل مرشحة للانفجار في‏:‏ تايوان‏,‏ وشبه الجزيرة الكورية‏,‏ وكشمير‏,‏ والشرق الأوسط بما فيه من بؤر ملتهبة‏.‏

في رؤية جيمس هوج أن الصين قوة في طريقها للظهور ولكنها ليست وحدها‏,‏ فالهند‏,‏ ودول آسيوية أخري من الممكن أن تتقدم علي دول غربية كبيرة‏,‏ فمن المتوقع أن يكون اقتصاد الصين ضعف حجم اقتصاد ألمانيا في عام‏2010,‏ وأن يتخطي اقتصاد اليابان ـ ثاني أكبر اقتصاد في العالم حاليا ـ في عام‏2020‏ وإذا احتفظت الهند بمعدل النمو الحالي فسوف تتساوي مع الصين أو تتجاوزها في أقل من خمسين سنة‏,‏ وبدأت دول أخري من جنوب شرق آسيا تدمج اقتصادها في شبكة كبيرة من خلال اتفاقيات التجارة والاستثمار المشترك‏,‏ وبدأت دول اتحاد جنوب شرق آسيا‏(‏ الأسيان‏)‏ في الاستعداد لاقامة تكتل تجاري هائل واتحاد نقدي‏.‏

 أين الدول العربية والاسلامية والأفريقية في هذه المرحلة التي تفكر فيها الدول الطموحة في تحديد مكانها علي خريطة العالم الجديد؟

بالنسبة للدول العربية والاسلامية فان الحماقات والجرائم التي ارتكبتها إدارة بوش طوال ثماني سنوات أدت إلي تقوية تيار الأصولية وجماعات الارهاب‏,‏ وخاصة تدمير العراق دون سبب وتعذيب العراقيين وإباحة القتل العشوائي لعشرات الآلاف من المدنيين‏,‏ والانحياز لعربدة اسرائيل والاستخفاف بالحقوق الفلسطينية والعربية والاسلامية‏,‏ مما يجعل المعتدلين في المنطقة في موقف صعب‏,‏ ولايكفي أن تملأ الادارة الأمريكية الجديدة الفضاء بالخطب والوعود والمحطات الاذاعية والقنوات التليفزيونية لنشر أقوال عن سياسات أمريكية لايجد الناس لها وجودا علي الأرض‏,‏ فالادارات الأمريكية تتصور دائما أن ماتسميه الدبلوماسية العامة يمكن أن يكون بديلا عن الأفعال وتغيير الواقع‏..‏‏,‏

وربما تكون إدارة أوباما قد أدركت أن القوة العسكرية وحدها لاتكفي لتحقيق النصر‏,‏ وقد تأكد ذلك في فييتنام حيث قتل الجيش الأمريكي ثلاثة ملايين فيتنامي ومع ذلك لم تتمكن القوة العظمي من تجنب الهزيمة ولم تستطع التغطية الاعلامية أن تعيد المصداقية التي خسرتها أمريكا في الداخل والخارج بسبب حرب فيتنام‏,‏ وكررت أمريكا الخطأ في العراق ولم تستطع أن تحقق من أهدافها إلا الاطاحة بصدام وتدمير قوة العراق الاقتصادية والعسكرية وإعادته إلي العصور الوسطي كما قالت كوندوليزارايس‏,‏ وأدت حرب العراق إلي تقوية ونشر التيارات الراديكالية وجماعات الارهاب المنظمة وغير المنظمة‏.‏

وسط كل هذه التغيرات والتطورات يأتي مؤتمر قمة دول عدم الانحياز ليكون وقفة لهذه الدول للنظر والتفكير بصوت عال في طبيعة التحول في النظام العالمي‏,‏ وتقدم بعض القوي الجديدة وتراجع بعض القوي القديمة‏,‏ وفي ضرورة البدء بالديمقراطية وحقوق الانسان وتصفية الخلافات بين دول الحركة وإعادة بناء العلاقات الاقتصادية بين دول الحركة علي أساس زيادة التعاون والتكامل الاقتصادي‏.‏

من الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدي يمكن اعتبار مؤتمر شرم الشيخ بداية لمستقبل هذه الحركة التي يمكن أن تكون قوة فاعلة ومؤثرة في السياسة الدولية وفي الاقتصاد العالمي‏,‏ ويمكن أن تتوصل الي حل الكثير من مشاكلها المعقدة والمزمنة وتتغلب علي الفقر والتخلف ويساند بعضها البعض لحماية مصالحها‏..‏ لقد أيقظت هذه الغمة الأمل في أن يعلو صوت الدول النامية في الساحة الدولية وتكون لديها القوة بفضل تجمعها علي توجيه السياسات والمنظمات الدولية نحو تحقيق العدالة الغائبة عن كثير من مناطق العالم نتيجة لتسلط القوة الكبري الظالمة والمستبدة خلال المرحلة الماضية‏.‏

ولكن تحقيق الأمل في قدرة وفاعلية حركة عدم الانحياز يتوقف علي قدرتها علي تحديث وتطوير سياساتها وآلياتها وتوافر الارادة السياسية لدي قادتها للابقاء علي قوة الدفع التي حصلت عليها الحركة في قمة شرم الشيخ‏..‏ فان مستقبل الدول النامية منذ اليوم يمكن أن يكون في أيديها وليس في أيدي غيرها‏.‏


 



جميع الحقوق محفوظة للمؤلف