مع الشيخ الغـزالى ((1))

كلما جاء شهر رمضان تذكرت الشيخ محمد الغزالى - عليه رحمة الله - فقد ترك فى نفسى أثراً لا تمحوه السنين.. ومازلت أذكر أول لقاء معه حين كان وكيلاً لوزارة الأوقاف، وذهبت أنا للقاء الدكتور عبد العزيز كامل نائب رئيس الوزراء ووزير الأوقاف فى ذلك الوقت، وكان الأهرام قد أضاف إلى اختصاصى أن أكون مندوباً فى وزارة الأوقاف مع كونى مندوب الأهرام فى جميع الهيئات القضائية، وكان اهتمام الأهرام بالأوقاف لأن الدكتور عبد العزيز كامل بعث فيها الحيوية وأصبحت مصدراً مهما للأخبار - كما رأى رئيس قسم الأخبار الأستاذ ممدوح طه - ولمحت الشيخ الغزالى جالساً على مكتبه فى الدور الأول، فوجدتها فرصة للقاء هذا الشيخ الجليل الذى يتمع باحترام الوزير وقيادات الوزارة وعلماء الأزهر.وشجعتنى سماحته وانفتاح فكره على تكرار اللقاء.. ثم شغلتنى الأيام فلم أعد ألقاه إلا قليلاً لأستمتع بحديثه وعمق أفكاره ونقائه الذى يلمسه للوهلة الأولى كل من يلقاه.
وحين شاركت فى تحرير الصفحة الدينية فى الأهرام أجريت معه عدة أحاديث فى مناسبات عدة، وفى مرة طلبت إجراء حديث معه عن أحوال الإسلام والمسلمين كما يراها فأخرج لى ورقة من مكتبه مكتوبة بخطه وقال لى: هذا ما لدى فافعل به ما تشاء.. ولأنى لا أحب كتابة حديث ليس فى حقيقته حديثاً، فقد ظلت هذه الورقة ضمن أوراقى إلى أن تذكرتها مع عبير هذا الشهر الكريم، والورقة التى كنت أعتبرها «خبيئة» أو «وصية» فيها ما يلى:
1- يواجه الإسلام أخطاراً مميتة، فالمسجد الأقصى فى براثن الصهيونية، والحملات تسعى لجعل الإسلام ديناً ثانوياً فى أفريقياً وآسيا، وهى الآن تقلص مساحة أرض الإسلام وتحويل المنتمين إليه، وقد قطعت شوطاً بعيداً إلى غايتها، والمسلمون فى غيبوبة مع أن الأمر يتصل بوجودنا: أنكون أم لا نكون؟
2- امتزجت القومية بالدين فى إسرائيل وفى جملة الدول التى تؤيدها.
3- الجماعات العاملة فى الحقل الإسلامى غارقة فى الخلافات الفرعية والمجادلات المذهبية، ناسية أن التجمع ضدها كلها قد تم، وأنه لا يجوز أن يرتفع صوت يشغل عن المعركة التى تتمثل فى القضاء على التخلف الإسلامى فى المجال الصناعى والحضارى، وهو تخلف واضح والذهول عن عقباه طريق الموت، ويجب توجيه الأجيال الجديدة إلى نهضة تقطع مسافة التخلف على عجل، وإلا فالهلاك محقق!
4- الإسلام دين عقائد وأخلاق وتقاليد ذكية صارمة، وقد تآمرت ظروف كثيرة على إضعاف العقائد، وتخريب الأخلاق حتى أمست الأمة الإسلامية ملتقى لمفاسد مهلكة، وتأخرت فى ميادين لا حصر لها، ويقتضى هذا اتحاد الجهود لإصلاح الأمة أولاً قبل الاشتباك مع النظم الحاكمة هنا أو هناك وإثارة فتنة ضررها أكبر من نفعها.
5- مع أن المسلمين يملكون ثروات لا يملكها غيرهم فإن فقرهم ظاهر، والتفاوت بين طبقاتهم شديد، والفتوق بين الشعوب الإسلامية تتسع، وقد عالج الإسلام كل هذه القضايا من ناحيتى الإنتاج والتوزيع، ولكن المسلمين غافلون.
6- أستطيع القول بأن شغل المسلمين بأمور أخرى من فقه المذاهب، أو من هوى الأتباع، أو من طلب الرياسة هو خيانة وخيمة الأثر فى هذه الأيام العصيبة، والواجب تجميع الأمةكلها لتواجه مستقبلها وتكوين رأى عام واسع يوقظ الهمم إلى هذه الحقائق ويلف الجماهير حولها، فإن أعداء الإسلام أحاطوا به، ويعلم الله ما فى أنفسهم مهما رددوا من كلمات معسولة، وليس وراء العرب متسع للغو أو للتحديث، وهذا أوان يثّوب الطائش ويجدّ الكسول وإذا كانت المعركة اليوم معركة الإسلام، فلا يجوز أن يرتفع صوت فوق صوتها ولا أن يبذل جهد إلا لكسبها والله ولى التوفيق.
المعركة اليوم معركة الإسلام
وصدق شيخنا الغزالى بقوله إن المعركة اليوم هى معركة الإسلام ومعركة للدفاع عن الإسلام ضد الحملات الظالمة فى الغرب لتشويه حقيقة هذا الدين العظيم، ومعركة ضد التخلف العلمى والاجتماعى والاقتصادى الذى تعانى منه البلاد الإسلامية. والمعركة ضد الإسلام فى الغرب وصلت إلى حد الدعوة إلى جعل يوم 11 سبتمبر اليوم العالمى لحرق القرآن، وقد نشرت الصحف الأمريكية كما جاء على موقع «فيس بوك» هذه الدعوة وطالب «تيرى جونز» أتباعه فى ولاية فلوريدا بالتصدى لما أسماه «الشر الذى يمثله القرآن»، وتيرى جونز هو مؤلف كتاب «الإسلام من الشيطان» قال فيه إن الإسلام يقود الناس إلى الجحيم ويجب وضعه فى مكانه فى النار وكرر الدعوة لأتباعه بالتصدى للإسلام، وفى فيديو على موقع «يوتيوب» كتب «واين ساب» مؤيداً الدعوة إلى حرق المصاحف وهذا ما جعل مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية «كير» فى واشنطن يصدر بيانا يدعو فيه مسلمى أمريكا إلى الرد على هذه الدعوة بالمشاركة فى حملة طوال شهر رمضان لتوزيع المصاحف على جيرانهم وعلى المسئولين الحكوميين والصحفيين، وجاء فى البيان أنه عندما يتوفر لدى الناس معلومات دقيقة عن الإسلام يسهل عليهم التواصل مع المسلمين، وإن الدعوة إلى حرق القرآن ليست إلا مبادرة عدائية وجزءاً من فوبيا الإسلام أى مرض الخوف من الإسلام المنتشر فى أنحاء أمريكا، ولكن ما يحدث فى أمريكا يذكرنا بقانون منع بناء المآذن للمساجد فى سويسرا، وقانون فرنسا الذى يعتبر العداء للسامية جريمة يعاقب عليها بالسجن والغرامة والعداء للإسلام ممارسة لحرية الرأى.
أما معركة الإسلام فى الداخل فهى متعددة الجبهات، وقد حذرنا الشيخ الغزالى من أنصاف متعلمين، وأنصاف متدينين يعلو الآن نقيقهم فى الليل المخيم على العالم الإسلامى، ويعتمد أعداء الإسلام فى أوروبا وأمريكا على ضحالة فكرهم فى إخماد صحوة جديدة للحضارة الإسلامية، وكان شيخنا الغزالى يقول: هل الأفضل جلباب قصير ولحية كثة أم عقل أذكى وقلب أنقى، وقد نجح بعض الفتيان فى قلب التعاليم الإسلامية فجعلوا الفروع جذوعا أو جذورا وجعلوا الأصول المهمة أوراقا تتساقط مع الرياح.. وكان يقول لأمراء الجماعات والأوصياء عليهم: إن الصلف مع العلم رذيلة، فكيف إذا كان الصلف مع عجز وقصور؟ وهل من مصلحة الأمة الإسلامية استمرار الخلافات: هل الشك ينقض الوضوء أم لا؟ وهل رؤية الله فى الآخرة ممكنة أم مستحيلة؟ وهل قراءة الإمام تكفى عن المصلين أم لا تكفى؟ وهل مصافحة المرأة تنقض الوضوء أم لا؟ وكان شيخنا يتعجب كيف يحكم حدث صغير السن قليل المعرفة على الإمام مالك لأنه لا يقرأ الاستعاذة قبل الصلاة ولا يقرأ البسملة ويخرج من الصلاة دون أن يتم التسليمتين.. فهل الإمام مالك رضى الله عنه جاهل بالسنة؟ وحدث آخر يقول: أبو حنيفة لا يرفع يديه قبل الركوع ولا بعده، ويوصى أتباعه ألا يقرأوا حرفا من القرآن وراء الإمام، وربما صلى بعد لمس امرأة، فهل كان الإمام أبو حنيفة رضى الله عنه جاهلاً بالإسلام؟
أنصاف المتعلمين يتصدرون القافلة!
وكان شيخنا يقول: إن علماء الأزهر القدامى كانوا أقدر الناس على علاج هذه الفتن لأنهم درسوا الإسلام دراسة تستوعب فكر السلف والخلف والأئمة الأربعة كما درسوا ألوان التفسير والحديث، وما تتضمن من أقوال وآراء، ولكن خلا الطريق لكل ناعق، وشرع أنصاف المتعلمين يتصدرون القافلة ويثيرون الفتن بدل إطفائها، ولكى نوقف هذا الانحدار فإن ذلك يحتاج إلى جهود متضافرة وسياسة علمية محكمة لترشيد الفتيان الذين يتناولون كتب الأحاديث النبوية وحدها ويحسبون أنهم أحاطوا بالإسلام علما بعد قراءة عابرة أو عميقة، بل ولترشيد شيوخ يحاربون الفقه المذهبى لحساب السلفية المزعومة التى عرفت من الإسلام قشوره ونسيت جذوره.. وقافلة الإسلام الحقيقى يحدوها الخلفاء الراشدون والأئمة المتبوعون والعلماء الموثقون خلفا بعد سلف.
رحم الله الشيخ الغزالى، ذلك الداعية الكبير الواسع المعرفة المتعمق فى دراسة القرآن والأحاديث والفقه فى جميع المذاهب ونظريات المتكلمين والفلاسفة.. كان موسوعة إسلامية حية تفيض بالعلم كلما تحدث.. وكان فى سلوكه الشخصى نموذجا عظيما للداعية الإسلامى، لا يعرض علمه للبيع لمن يدفع أكثر، ويقول كلمة الحق ولا يبالى.. وكان من رأيه أن الوصول إلى الحق يحتاج إلى الذكاء قدر ما يحتاج إلى الإخلاص، ولذلك منح الله أجرين لمن يعرف الحق، ومنح أجراً واحداً لمن أخطأه وهو حريص على بلوغه، وبعض الناس يظن أن خطأ مجتهد ما قضاء على مكانته، وهذا جهل كبير، فما أكثر الأخطاء التى وقع فيها مجتهدون من كبار الأئمة، والدهماء عندنا ميالون إلى القول بعصمة الأكابر ونحن لا نعرف فى تاريخنا إلا معصوما واحدا، هو محمد بن عبدالله صاحب الرسالة الخاتمة.
أرجو أن يقرأ شبابنا وشيوخنا هذه الكلمات مرة أخرى لعلها تقلل من غلوائهم، فهى كلمات لا تصدر إلا من عالم كبير.. متواضع.. رحمه الله وأجزل له الثواب عن جهاده فى الدفاع عن الإسلام الصحيح.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف