لو أن كاتبا كبيرا مثل مصطفي محمود جاء في زمان آخر غير هذا الزمان لوجد أكثر من ناقد وباحث يتفرغ لتحليل فكره ومواقفه الاجتماعية والسياسية ورؤيته للدين والحياة, ويبلور لنا فلسفته المتكاملة في الدين والحياة والانسان ولكنه ـ مع الأسف ـ جاء في زمن التجاهل واللامبالاة والنفاق وجماعات المصالح حتي في مجال الفكر!
وأخيرا جاء كتاب الدكتورة لوتس عبدالكريم عنه ليكون نوعا من الاعتذار بالنيابة عن النقاد ودارسي الادب.
وفي كتاباته يتصدي مصطفي محمود لشيوخ التكفير الذين قالوا ان الموسيقي والرسم وسائر الفنون حرام, وأن صوت المرأة عورة وخروجها من بيتها فتنة, والذين يدعون التصوف ويقولون إن شيوخهم وأولياءهم في درجة الأنبياء ويبالغون في اختراع الكرامات وينسبونها اليهم, وبعض مدعي التصوف من الدجالين والمرتزقة, بينما التصوف الحقيقي هو اخلاص العبادة لله وحده, والتفاني في عمل الخير, والحياة في رحاب الله دون اعتزال الدنيا التي خلقنا الله لكي نعمل علي إعمارها, وتصدي للجمود الفكري ودعا للتصدي للفكر بالفكر, ولهذا هاجم قرار مجلس الشعب الذي أصدره يوما بمصادرة كتاب الفتوحات المكية لابن عربي وتحريم تداوله وجمع نسخه من السوق, وتساءل: هل قرأ أعضاء مجلس الشعب الأفاضل هذا الكتاب وهو من36 جزءا, ولم ينتخب الشعب أعضاء مجلس الشعب للافتاء في أقوال ابن عربي أو اينشتاين أو داروين ولكن انتخبهم لحل مشكلاتهم الحياتية, ومحاسبة الحكومة علي مدي نجاحها أو فشلها في توفير المساكن والمواصلات وتحسين الرواتب والمعاشات ومواجهة الغلاء والاحتكار..
ولم يعلم أعضاء مجلس الشعب أن الأزهر منح درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف للباحث محمد مصطفي عن رساله عن ابن عربي. فكيف يصادر مجلس الشعب الفكر ويمنع التراث, ويقمع الحريات وأهمها حرية الرأي, ويقول لو كنا طاوعنا المتطرفين من كل عصر لما بقي عندنا قرآن ولاسنة, فقد قال البعض في عهد عثمان, وبعد عثمان ان تدوين القرآن, وجمع الأحاديث النبوية بدعة لم نسمعها عن الرسول!
ومن ثوابت فكر مصطفي محمود موقفه من الحركة الصهيونية العالمية, ورؤيته عن انهيار الحضارة الغربية ونظامها الرأسمالي المتوحش كما انهارت حضارات كثيرة في التاريخ, وكان قد تنبأ بسقوط الشيوعية قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بسنوات, وكتب كثيرا عن الأقنعة التي يتخفي وراءها الاستعمار والصهيونية العالمية لمحاربة الاسلام والمسلمين.
ومن خواطره: إن القليل الذي تحبه يسعدك أكثر من الكثير الذي لاتحبه. وان الانسان خلق ليعمل فالعمل يجعلك تنسي البحث عن السعادة وهذا في الواقع منتهي السعادة, وبدون العمل يموت القلب, وينطفيء العقل, وتبدأ سلسلة الأوجاع التي يشكو منها أبناء الطبقة التي تكسب دون أن تعمل, أمي لم تكن تفهم الفلسفة ولكنها كانت تري أن غايتها في الحياة الستر أي القليل من المادة والكثير من الرضا.. وهو مثل الامام محمد عبده يكره السياسة لأن لها ظاهر وباطن ولكل سياسي عدة وجوه ويقول اليوم عكس ما قاله بالأمس, وقد يتعامل في الموقف الواحد بوجهين, ولرجال السياسة مخططات معلنة وأخري سرية, ومعظم ما يقال بشبكات الأخبار معلومات مصنوعة ومطبوخة سلفا. كانت الشيوعية ترتكب جرائم القتل والسجن وتنشر الخوف بين مواطنيها وتدعي ان ذلك من اجل انصاف المظلومين وتحسين حياة الفقراء, فهل تحسنت أحوالهم في ظل الحكم الشيوعي أم ازدادت حياتهم قهرا وخوفا وفقرا؟..
والثورة الفرنسية التي رفعت شعار الحرية والمساواة وقطعت عشرات الآلاف من الرءوس علي الجيلوتين, وحينما دخل موسيليني طرابلس غازيا لبس العمامة وادعي الاسلام, وأعلن انه جاء لينصر دين محمد ونصب المشانق لاتباع محمد, وهذا ما فعله حكم النازي وفعلته الامبراطورية البريطانية ثم الامبراطورية الامريكية, وهذا ما فعله نابليون عندما جاء إلي مصر غازيا لاحتلالها, وكل ذلك يفرض علي الانسان أن يتنبه ويفكر فيما يحدث وما يقال ويبحث عن الحقيقة وراء الاقنعة الظاهرة.
ويبدو أن المزاج العام لمصطفي محمود كان يميل إلي التشاؤم, وكأنه كان يتحدث عن نفسه علي لسان بطل روايته المستحيل حين يقول: ليس في حياتي يوم واحد أستطيع أن أقول انه يومي ـ إني لا أعيش, ولكني أتدحرج كحصاة كبيرة ثقيلة. تسوقني الوظيفة إلي المكتب, ويجرني الزواج إلي البيت, ويلقي بي الملل إلي المقهي, ويدفعني الجوع إلي الطعام.. حياة ملولة كأنها اسطوانة رتيبة الايقاع ينبعث منها نغم فاتر حزين يشير إلي الحياة لكنه ليس هو الحياة, ولكنه يجد حياته الحقيقية في الايمان فيقول: وليس في الكون إلا الخالق العظيم الذي يخلق لبذور الأشجار الصحراوية أجنحة لتعبر الصحاري بحثا عن الماء, ويزود بيضة البعوض بكيسين للطفو علي الماء لحظة وضعها فلا تغرق, والكون كله مبني وفق هندسة وقوانين دقيقة, وكل شيء يتحرك بحساب من الذرة المتناهية الصغر إلي الفلك العظيم, والشمس وكواكبها, والمجرة التي تحوي أكثر من ألف مليون شمس,
إلي السماء المترامية التي يقول الفلك إن فيها أكثر من ألف مليون مجرة, وفي المشرحة, وعنابر المرضي في قصر العيني رأيت لحظة الموت, ولحظة الميلاد, وهما من اللحظات التي يقف فيها الفيلسوف حائرا ولاينقذه ن الحيرة, إلا الايمان والتسليم لله.
ليس هدفي أن أقدم تحليلا كاملا لاعمال وفكر مصطفي محمود, ولكني فقط أتساءل: إلي متي يدوم تجاهل الكتاب لهذا العملاق بينما يقرعون الطبول للأقزام؟!