بدأت علاقتي بالدكتور مصطفي محمود في سنة1994 عندما كنت رئيسا لمجلس ادارة دار المعارف ورئيسا لتحرير مجلة اكتوبر, كان الدكتور مصطفي محمود يزورني في أوقات متقاربة ليتابع معي اعادة طبع كتبه التي ننفرد بنشر42 كتابا منها وليراجع حسابات مستحقاته المالية في الدار عن حقوق التأليف وكنت حريصا علي نشر مقال اسبوعي للدكتور مصطفي محمود في مجلة اكتوبر وكان اسمه الكبير وكتاباته الشجاعة المتنوعة اثراء للمجلة..
ومنذ أربع سنوات جاءني الدكتور مصطفي محمود ومعه ابنه أدهم وابنته أمل وقال لي انهما سيتوليان الأمور الخاصة بمؤلفاته في دار المعارف, وقال أيضا ان دار أخبار اليوم عرضت عليه اعادة طبع عدد من كتبه المنشورة في دار المعارف, وسألني ان كنت أوافق علي ذلك وكان ردي إنني حريص علي ان تستمر دار المعارف وحدها صاحبة الحق في نشر جميع كتبه ولكن من حقه وحق قرائه ان تصل كتبه إلي أكبر عدد من القراء وعلي ذلك أوافق علي عدد محدود من كتبه لطبعها في أي مكان يريده بعد نفاد الكميات المطبوعة منها.
ولكن بعد هذا اللقاء شعرت بانقباض: لماذا جاء مع ابنه وابنته, وما معني قوله انهما سيتوليان الأمور الخاصة بكتبه ومستحقاته عنها; ولماذا كان في هذه المرة منقبضا؟ قبل ذلك حدثني كثيرا عن العمليات الجراحية الثلاث التي أجريت له في المخ, كانت العملية الأولي في سنة2003 في مصر, والثانية في السعودية, والثالثة في لندن, لكنه بعد العملية الثالثة اعتزل الناس, واعتبر نفسه في هجرة نحو البحث عن الحقيقة, وأصبح قليل الكلام, وينسي الأسماء والأحداث.. وانتقل إلي شقة في بيت امام جامع مصطفي محمود الشهير حيث تقيم في شقة أخري طليقته الأولي مع ابنتهما أمل, ولاتتردد عليه الا ابنته لخدمته لانه لايحب ان يقيم معه أحد, وهو منذ سنوات طويلة ـ قبل مرضه الحالي ـ كان يعيش في غرفة صغيرة في أعلي المسجد يطلق عليها التابوت مع أنه كان يستطيع ان يعيش في فيلا أو حتي في قصر وقد كانت تتدفق عليه الأموال من كتبه وبرنامجه الأسبوعي الشهير العلم والايمان الذي كان يعرض في تليفزيونات الدول العربية, ولكنه كان يوجه معظم ايراداته وايرادات المستشفي الملحق بالمسجد الي الصدقات واعمال الخير وجمعية مصطفي محمود الخيرية, ولم يكن ينفق علي نفسه الا القليل جدا, فقد عاش حياته زاهدا, طعامه قليل, ولايبالغ في شراء الملابس, ولايدخن, وليست له مصاريف شخصية.
وبعد سنوات طويلة من صداقته بالدكتورة لوتس عبد الكريم الكاتبة وصاحبة مجلة شموع وزوجها عبد الرحمن العتيقي الذي صار وزيرا للمالية والبترول في الكويت, سجلت حصيلة هذه السنوات في كتاب شامل عنه صدر في سلسلة كتاب اليوم, منذ ميلاده سنة1921 وحياته وهو في المرحلة الثانوية في مدينة طنطا يجوب الموالد وراء الدراويش ومجاذيب السيد البدوي, ثم التحاقه بكلية طب القاهرة وتتلمذه علي يد الموسيقيين والمطربات في شارع محمد علي وحلمه في ان يصبح موسيقيا, واجادته العزف علي العود والناي وكتابة وقراءة النوتة الموسيقية, ولكنه بعد التخرج سنة1952 تخصص في الأمراض الصدرية ثم سرعان ماترك الطب وانجذب إلي الصحافة والأدب وأصبح من كتاب روز اليوسف.
ومصطفي محمود كاتب ومفكر يبحر في بحار كثيرة بفكره وقلمه, بدأ بالفلسفة الوجودية, ولم يكن وحده في ذلك ــ وانتهي بالاستغراق في التأمل والتصوف, وكان حريصا علي أن يقضي الساعات في الليل وهو ينظر إلي السماء من خلال تلسكوب ضخم يضعه علي سطح المسجد ويتأمل في عظمة الخالق كما تتجلي في الفضاء اللانهائي ومافيه من نظام للكواكب والنجوم..
ومع كل مافي فكره وكتاباته وأعماله من شواهد الايمان واليقين تعرض لأكثر من حملة تتهمه بالكفر من المتشددين والراغبين في الشهرة علي حساب أكل لحم أخيهم, فكان الاتهام الأول بعد صدور كتابه الله والانسان
ونجحت الحملة في استصدار قرار بمصادرة الكتاب وتقديمه للمحاكمة وانتهت بالاكتفاء بمصادرة الكتاب, ومن الغريب ان الرئيس السادات بعد أن صار رئيسا بعد سنوات أبدي اعجابه بالكتاب وطلب منه اعادة طبعه, ولكن مصطفي محمود نشر كتابا آخر بعنوان حوار مع صديقي الملحد كان سببا في حوارات مع الرئيس السادات, وقرر الرئيس السادات يوما ان يعين مصطفي محمود وزيرا, ولكنه اعتذر قائلا.. انا فشلت في ادارة أصغر مؤسسة ـ وهي زواجي ـ وانا أيضا أرفض السلطة بكل اشكالها.
وكانت أشد الحملات عليه في سنة2000 حين نشر رأيه بأن شفاعة الرسول صلي الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة لايمكن ان تكون علي الصورة السائدة التي يروج لها بعض الشيوخ, لأنها بهذه الصورة تمثل دعوة للمسلمين للتواكل وتعطي لجميع المسلمين حصانة من الحساب والعذاب لمجرد انهم مسلمون.. واستطاع أصحاب الحملة ان يصوروا مصطفي محمود علي أنه منكر للشفاعة وقد ورد ذكرها في القرآن, والفوا14 كتابا في الهجوم عليه وتشويه فكره وأعماله, وكان رده أنه مارس حقه في حرية التفكير وهو كإنسان معرض للخطأ, والمجتهد له أجر اذا أخطأ وفي النهاية اعترف بخطئه, وتوقف عن الكتابة, فلم تصدر له بعد ذلك كتب جديدة, ولم يظهر في أي مكان, ولم يلتق بأي شخص, ولم يرد علي أي تليفون.. وهكذا كانت جناية شيوخ التكفير علي رجل لخص رؤيته للحياة بقوله: قررت ـ بعد فشل زواجي الثاني ـ أن أعطي نفسي لرسالتي وهدفي كداعية اسلامي, ومؤلف, وكاتب, وأديب, ومفكر, وقد اقتنعت تماما بأن هذا قدري, ورضيت به.. إن انتصاراتي علي نفسي هي أهم انتصارات في حياتي, واذا سئلت بعد المشوار الطويل من أكون; أقول أريد ان أكون خادما لكلمة التوحيد, وأكون دالا بحياتي وعلمي علي الخير..