الذين يرفعون شعار تطبيق الشريعة ويقولون إن سعيهم للاستيلاء علي السلطة هدفه إقامة حكم تكون فيه جميع القوانين تطبيقا لما في القرآن والسنة, يرددون قول الله تعالي: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ليؤكدوا أن القرآن فيه كل ما يحتاجه المجتمع والأفراد لحياتهم ولإقامة الحكم الرشيد دون حاجة إلي ما سواه.
ويغفلون, أو يتجاهلون المعني الحقيقي لهذه الآية الكريمة كما بينه الإمام الأكبر الشيخ عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر الأسبق في كتابه السياسة الشرعية والفقه ليس معني أن القرآن تبيان لكل شئ أنه أحاط بجزئيات ووقائع الحوادث ونص علي تفاصيل أحكامها. فالقرآن أحاط بجميع الأصول والقواعد التي لابد منها في كل قانون ونظام مثل وجوب تحقيق العدل, ورفع الحرج, ودفع الضرر, ورعاية الحقوق لأصحابها, وأداء الأمانات إلي أهلها, والرجوع بمهام الأمور إلي أهل الذكر والاختصاص, وإذا كان رجال الأزهر الكريم وفقهاء الشريعة وفقهاء القانون هم من أهل الذكر والاختصاص في ناحية من نواحي الحياة, فإن رجال المال والاقتصاد والعلم والاجتماع هم أيضا من أهل الذكر في نواح أخري لها شأنها في حياتنا, ومن هنا يكون الاقتصار في اعداد القوانين علي رجال الشريعة قصورا تخشي عواقبه
ومعني ذلك أن القوانين يجب ألا تخالف نصا من نصوص القرآن والسنة الصحيحة وليس المعني أن تكون القوانين مقصورة علي ما جاء فيهما, لأن الله سبحانه وتعالي ترك للبشر مساحة واسعة ليتحركوا فيها بعقولهم ووفق مصالحهم وما يستجد في دنياهم من مسائل ومشكلات يحتاجون معها إلي قوانين لتنظيم شئون حياتهم دون قيد عليهم غير المبادئ التي حددها الإمام الأكبر الشيخ تاج.
ولكن أصحاب تيار الإسلام السياسي يقولون غير ذلك, يقولون إن كل قانون يجب أن يكون من الكتاب والسنة, دون أن يقولوا كيف يمكن اعداد قانون المرور او قانون النقل البحري مثلا من القرآن والسنة, وهما وأمثالهما ينظمان نوعية من النشاط لم يكن موجودا في عصر نزول القرآن, ومع ذلك فقد دخل بعض رجال التشريع في مزايدات مع التيار الإسلامي, وأعلنوا ذات مرة وهم يقدمون قانون التجارة البحري أنه الثمرة الأولي من ثمار الاجتهاد في تقنين الشريعة, ولم يستمعوا الي تنبيه الفقيه القانوني مصطفي مرعي حين قال إن هذا الادعاء ليس إلا محاولة لتملق التيار الإسلامي لأن موضوع التجارة البحرية لم تظهر أهيمته ولا ظهرت الضرورة لتنظيم هذه التجارة إلا في العصر الحديث مع ظهور السفن التي تجوب القارات, ولم يكن مطروحا علي أعلام الفقه قبل القرن العشرين, لأن القانون التجاري البحري ليس إلا فرعا من أصلين معا هما القانون المدني والقانون التجاري, وليس منطقيا أن يضع المشرع قواعد الفرع قبل أن يضع قواعد الأصل.. وهذا ما ينطبق علي كثير من القوانين التي لم تظهر الحاجة إليها إلا في عصرنا ولم تكن مطروحة علي المسلمين الأوائل.. وهذه يجب ألا تخالف حكما من
أحكام القرآن والسنة الصحيحة, بينما هناك قوانين يجب أن تستخلص من مبادئ الشريعة مثل قوانين الزواج والطلاق والميراث وأمثالها..
ومن يقرأ الأعمال التحضيرية لمجموعة القوانين المدنية المصرية التي اخذت منها قوانين معظم الدول العربية ويقرأ المقدمة التي كتبها أبو القانون المدني عبد الرزاق السنهوري يتأكد ان هذه المجموعة التي عكف الدكتور السنهوري علي اعدادها عشرين سنة لم تخالف الشريعة إلا في عدد قليل جدا من أحكامها وتم بعد ذلك تعديل معظمها, وقد عرف عن الدكتور السنهوري ولاؤه الكامل للشريعة الإسلامية ودفاعه عنها في المجالات الدولية, وبعد عام1971 والنص في المادة الثانية علي وجوب التزام القوانين بمبادئ الشريعة الاسلامية عرضت علي الجمعية العمومية لمحكمة النقض مجموعة القوانين المدنية القائمة وابداء الرأي في مطابقتها او مخالفتها لنص المادة الثانية من الدستور وهل تحتاج الي استبدالها بقوانين اخري مختلفة, وبعد البحث قالت الجمعية العمومية لمحكمة النقض أعلي محكمة في السلطة القضائية انه لا حاجة لنبذ التشريع المدني الذي وضعت أحكامه بعد طول بحث وتضمنت المذكرة الايضاحية تأصيلا لكثير من القواعد في فقه الشريعة الإسلامية, ويكفي تعديل بعض النصوص القليلة.. وقد علق علي ذلك المستشار مصطفي مرعي بقوله إن هذا القول الرفيع من هيئة رفيعة يرد علي أصحاب الرأي
الآخر ليدركوا أنه لا يجوز أن يصير الاسلام ورقة يلعبون بها في مقام التنافس.. ولم يجد المستشار مصطفي مرعي ما يقوله للمزايدين في تيار الاسلام السياسي إلا قول الله تعالي: ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير.
ولكن أصحاب تيار الاسلام السياسي يعملون بالصوت العالي علي نشر شعارات عامة غامضة ولا يدركون اهمية مسايرة المتغيرات في التكنولوجيا والعلوم والمعلومات مما يقتضي القيام بحركة عقلية جديدة تؤسس لنهضة لا تنفصل عن جذورنا الفكرية والثقافية وتتفاعل مع الماضي والحاضر والمستقبل ولا تقتصر علي الماضي وحده..
وتبقي مسألة الحدود.
.