إنجازات وتجاوزات ثورة يوليو
لفت نظرى فى مناسبة مرور 58 عاما على ثورة يوليو أن شبابا لم يشهد أيام هذه الثورة يتحدث عنها بإحساس الفخر وبتقدير لمكانتها فى التاريخ، على الرغم مما يحاصرهم ليل نهار من أحاديث وكتابات أعداء الثورة الذين ظلوا سنوات فى حالة «الكمون» أو «النفاق» ثم كشفوا عن وجوههم الحقيقية وأفصحوا عن عدائهم للثورة إلى حد الادعاء بأنها لم تكن «ثورة» وأن كل تاريخها يتلخص فى نكسة 67 ولا شىء قبلها ولا بعدها.
وبعض المعلقين المنافقين الجدد يقولون إن الثورة ورجالها وإنجازاتها هى الماضى، ويجب أن يتفرغ حملة المباخر لتمجيد الحاضر وترك الماضى لأنه انتهى وهؤلاء الذين سيقولون غدا عن هذا «الحاضر» إنه الماضى ويمجدون كل «حاضر» ويطالبون بنسيان كل ما ينتمى إلى «الماضى» مع أن الحياة سلسلة متصلة الحلقات ولا يمكن فصل حلقة أو حلقات وإلقائها بعيداً والاكتفاء بحلقة واحدة، فالماضى هو الأب الشرعى للحاضر وهو الجد الشرعى للمستقبل، فلا مستقبل لمن لا ماضى له، والدول التى لها ماض لا يزيد كثيراً على قرنين من الزمان تعمل على إحياء وتمجيد هذا الماضى، فما بال الدولة التى لها ماض يمتد إلى خمسة آلاف عام وأكثر؟
ومع ذلك فإن ثورة يوليو مازالت فاعلة فى الحاضر والمستقبل.. لا لشىء إلا أنها كانت نقطة تحول فى التاريخ المصرى والعربى والأفريقى، كانت هى «الروح» الجديدة.. وكانت هى «الرياح» التى هبت لتوقد شعلة التحرر الوطنى، وتغرس مبادئ العدل الاجتماعى، وتكافؤ الفرص وكرامة الإنسان، ورفض الاستغلال بكل صوره فى الداخل والخارج، والوقوف إلى جانب الشعوب الساعية إلى التحرر والاستقلال، والإيمان بأن الشعوب العربية كيان واحد والقومية العربية حقيقة من حقائق الوجود يمكن التشكيك فيها ولكن لا يمكن انتزاعها أو القضاء عليها، هى حقيقة موجودة قبل الثورة وستظل موجودة دائماً، والفضل للثورة فى «اكتشافها» وليس «اختراعها» كما يدعى البعض.
ولأسباب كثيرة ستبقى ثورة يوليو حية فى الوجدان المصرى والعربى مع مالها - ككل عمل بشر - من إيجابيات وسلبيات، وهذا طبيعى، فالثورات الكبرى لا تذهب إلى النسيان، لقد مضى على الثورة الفرنسية أكثر من قرنين من الزمان ومع ذلك لا تزال هى الروح السارية فى فرنسا وهى الملهمة للعالم لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة، ولم يطالب أحد فى أى مكان فى العالم بنسيان هذه الثورة العظيمة بحجة التفرغ للمستقبل.. فكيف يكون المستقبل إذا انقطعت صلته بالماضى واصبح معزولاً فى فراغ تاريخى، وهل يمكن تصور وجود ثمرة بدون شجرة، وشجرة بدون جذور، وجذور بدون تربة مهيأة لاحتضان هذه الجذور وإمدادها بعناصر الحياة والنمو.
مخاطر «العمى التاريخى»
فى رأيى أن هناك عميان لا يرون إنجازات الثورة وينكرون أن لها إنجازات إطلاقاً.. وهناك من ينظر إلى الثورة بعين واحدة نتيجة لإصابة عينه الأخرى بمرض لعين قد يكون «النفاق» وقد يكون الانتقام وتصفية الحسابات، وقد يكون مقابل ثمن يعلمه الله والراسخون فى العلم، هؤلاء لا يرون إلا الأخطاء والتجاوزات، ثم هناك - طبعاً - من وهبهم الله نعمة البصر والبصيرة ليروا هذه الثورة كما هى بإنجازاتها وتجاوزاتها وبإيجابياتها وسلبياتها بما حققته وما فشلت فى تحقيقه فى انتصاراتها وهزائمها فى المعارك التى فرضها عليها أعداء فى الداخل والخارج أعداء لثورة تسعى إلى تحرير الشعوب وإلى أن تكون لديها عوامل القوة وأن تفكر فى وحدة تحول الكيانات العربية المتناثرة إلى كيان كبير تتكامل فيه عناصر القوة الموزعة والضائعة وإنكار جانب من الجانبين - السلبى والايجابى - للثورة ولكل حدث تاريخى كبير أو صغير خطأ كبير فى حق الوطن وحق التاريخ.
والغريب أن البعض عندنا ينكر كل فضل للثورة ويصف سنواتها جميعاً بأنها «سنوات الهوان» بينما نجد بعض أعداء الثورة فى الخارج لا يستطيعون أن ينكروا أنها غيرت وجه مصر على الرغم من أن طريقها كان مليئاً بالتحديات والصراعات فى الداخل والخارج.. تحديات وصراعات مع القوى التى كانت تنفرد بالسيطرة والاستغلال وتمص دماء الشعب وتضع نفسها فى خدمة الاستعمار والمصالح الأجنبية.. وتحديات وصراعات مع القوى الداخلية والخارجية التى كانت تسعى إلى القضاء عليها قبل أن تحقق مبادئها الستة وتقضى على الإقطاع، وعلى سيطرة رأس المال على الحكم، وعلى الاستعمار وأعوانه، وطبعاً كان أعوان الاستعمار الأكثر شراسة فى حربهم ضد هذه الثورة، وتحالفوا مع الشيطان للقضاء عليها.. لم يكن يرضيهم أن الثورة جعلت الفلاحين المعدمين والأُجراء يملكون الأرض ويشاركون فى سلطة الحكم بـ 50% من المقاعد فى المجالس النيابية المنتخبة، وجعلت العمال يجلسون فى مجالس إدارت الشركات باعتبارهم ملاكاً وليسوا أُجراء، ولم تكن ترضيهم المعارك الشرسة التى خاضتها الثورة من أجل بناء جيش وطنى قوى، وبسبب رفض توريط مصر فى الأحلاف العسكرية ومعاهدات الدفاع المشترك التى تؤدى إلى التبعية وفقدان الاستقلال، ثم من أجل بناء السد العالى، وقد أراد المرجفون تشويه هذا المشروع الذى حمى مصر من الجفاف ومن الفيضانات وخاب سعيهم ومعارك الثورة كثيرة ليس آخرها معركة تصنيع البلاد وجعلها من بلد مستهلك ومستورد إلى بلد منتج ومصدر.
اتهامات بالحق والباطل
وأعداء الثورة فى جعبتهم الكثير من الاتهامات أغربها أن عبد الناصر كان شيوعياً وكان يريد تطبيق الماركسية ودليلهم على ذلك أنه اتجه إلى الكتلة الشيوعية لشراء السلاح، ويغفلون - عن عمد وليس عن جهل - أنه اتجه فى البداية إلى الولايات المتحدة بطلب السلاح، ثم بطلب تمويل السد العالى الذى كان يعتبره المشروع القومى لحماية مستقبل البلد، وساومت الولايات المتحدة وفرضت الشروط التى تتعارض مع استقلال البلد وإعادتها إلى عصر التبعية و«الاستقلال» هو روح الثورة وجوهرها وبعده تأتى التنمية والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية، ثم إن عبد الناصر كان حريصاً على أن يكرر الفروق بين نظامه وبين النظم الاشتراكية الأخرى.
ومن الاتهامات أن الثورة قضت على الديمقراطية حين قامت بحل الأحزاب، ويتجاهلون أن قادة الأحزاب القديمة كانوا من التابعين للنظام الذى قامت الثورة لتغييره، وقادة الأحزاب عارضوا الإصلاح الزراعى وإنصاف الفلاحين والعمال، ورفض الاستسلام للقوى الكبرى، وليس فى تاريخ العالم ثورة قامت لتغيير أوضاع مجتمع ثم سلمت مقاليد السلطة للقوى السياسية التى ثارت عليها، وفى الكتب والأدب عشرات الآلاف من الصفحات فى وصف المذابح والمشانق التى نصبتها الثورة الفرنسية لكل من وجه إليه اتهام بأنه من أعداء الثورة، بينما حرصت ثورة يوليو على عدم إراقة الدماء بما فى ذلك دماء المسئولين عن الفساد والاستغلال والتمكين للاستعمار وللقوى الأجنبية.
وكان للثورة تجاوزات وسلبيات وأخطاء من حقنا، بل من واجبنا أن نتذكرها ونعتبرها دروساً تفيدنا فى تحسين حياتنا فى الحاضر والمستقبل، كان الخطأ الأكبر فى هزيمة 67 وتحليل أسبابها يحتاج إلى كلام كثير، وكان الخطأ أيضاً يتمثل فى التعذيب والمعتقلات وإهدار حقوق الإنسان فى السجون وليس لدّى عذر لذلك لأنه لا يمكن التسامح مع هذه الجرائم، ثم كان الخطأ فى تأجيل تنفيذ مبدأ إقامة حياة ديمقراطية سليمة بأكثر مما يجب.. صحيح كانت هناك ظروف وأسباب للتأجيل.. هذا مفهوم فى كل الثورات، ولكن التأجيل استمر حتى أصبح هو القاعدة، وغياب الديمقراطية هو السبب فى هزيمة يونيو 1967 وفى سياسة التعذيب والمعتقلات، لأن الديمقراطية ضوء كشاف يفضح الأخطاء والتجاوزات قبل أن تستفحل، وهذا ما تعلمناه من الميثاق ولم ينفذ.
وهكذا فإن الثورة لها ما لها وعليها ما عليها.. لأن قادتها لم يكونوا ملائكة ولم يكونوا شياطين.. ولكنهم كانوا بشراً مثل كل البشر!