قضية الحكم بالشريعة‏ 1

 القضية الأساسية لدي تيار الإسلام السياسي هي الادعاء بأن الأنظمة الحالية ابتعدت عن شريعة الله,‏ وأن الحل الوحيد هو أن يتولي قادة التيار الإسلامي السلطة‏,‏ وبذلك يتم تطبيق الشريعة وتنصلح أحوال المسلمين ويتم القضاء علي الفقر والظلم والفساد والاحتكار والرشوة وفساد الأخلاق وكل ما يشكو منه الناس في حياتهم‏..‏ وهذه القضية تحتاج إلي حوار‏:‏

أولا‏:‏ ليس هناك مجتمع يمكن أن يعيش بدون دين وهو السد المنيع الذي يحمي الفرد والمجتمع من الفساد وليس من مصلحة المجتمع أن تسيطر السياسة علي الدين أو أن يسيطر رجال الدين علي السياسة‏.‏

ثانيا‏:‏ إن تفسير الشريعة ليس حكرا علي أحد وباب الاجتهاد في الفقه الإسلامي مفتوح ولم يغلق إلا في عصور الاستبداد‏,‏ وهناك فرق بين الدين‏,‏ وهو مجموعة الأوامر والنواهي التي وردت بالنص في القرآن والسنة وبين الفقه وهو اجتهادات وآراء ومذاهب تختلف عن بعضها في الفروع نتيجة الاختلاف في فهم أصحابها للنصوص التي تقبل الاختلاف وفي تفسير هذه النصوص وفي مناهج استنباط الأحكام منها‏,‏ الدين هو العقيدة الإلهية‏,‏ والفروض التي فرضها الله علي المسلم‏,‏ والفقه اجتهاد انساني يقبل الخلاف‏,‏ وحتي اليوم لم يجب أصحاب تيار الإسلام السياسي عن السؤال‏:‏ هل المطلوب تطبيق النصوص القرآنية أم تطبيق آراء واجتهادات الفقهاء‏,‏ وأي المذاهب التسعة المعتمدة تلزم المسلمين وحكامهم؟ وماذا عن الأصل المقرر في الفقه الخاص بتغير الأحكام مع تغير الزمان والمكان‏,‏ والحياة تطرح كل يوم قضايا جديدة‏.‏

ثالثا‏:‏ إن فكرة الدولة في العصر الحديث قائمة علي أساس العقد الاجتماعي وليس علي أساس التفويض الإلهي التي كانت تمثل جوهر الحكم في القرون الماضية وهي قرون مليئة بالمظالم والاستبداد وكم من الجرائم ارتكبها الحكام في ذلك الزمان باسم تطبيق الشريعة‏.‏

رابعا‏:‏ إن قيام الدولة المدنية ـ علي أساس العقد الاجتماعي والدستور والمواطنة والديمقراطية لا يمنع أبدا من التزامها بالمبادئ والأحكام القطعية التي وردت صراحة في القرآن والسنة الصحيحة‏.‏

خامسا‏:‏ إن الصحوة الدينية تقود إلي يقظة الضمائر وإلي التقوي ومراعاة ما أمرنا به الله في كتابه الكريم في علاقات الأفراد والجماعات والمجتمعات‏,‏ ولا يتعارض ذلك مع النظم السياسية الحديثة أو مع مبادئ العلاقات الدولية‏,‏ وهي تدور مع المصلحة‏.‏ وقد قال الفقهاء قديما وحديثا‏:‏ حيث تكون المصلحة يكون شرع الله وهذا ما يفرض الاتفاق بين قوي المجتمع ككل علي حدود العلاقة بين ما هو دين وما هو سياسة‏..‏ ولا يمكن تجاهل التجارب ودروس التاريخ في هذه القضية‏.‏

سادسا‏:‏ إن الدول الإسلامية ـ جميعها ـ لا ترفض الالتزام بما جاء صراحة في الكتاب والسنة الصحيحة‏,‏ ولكنها ترفض ادعاء جماعات معينة بأنها هي وحدها الممثل الشرعي والوحيد للإسلام وأن كلمتها هي كلمة الله‏,‏ فالخلاف في الفقه وفي السياسة خلاف مع بشر وليس مع الدين‏,‏ وهولاء الناس ليسوا هم الشريعة‏.‏ ولابد أن نضع في اعتبارنا الاختلافات في مفاهيم الشريعة بين أهل السنة والشيعة‏,‏ والاباضية والصوفية‏,‏ والسلفية‏,‏ والاختلافات بين المذاهب الفقهية في داخل هذه المدارس والتيارات الإسلامية وليس لمذهب الحق في الوصاية علي المذاهب الأخري‏.‏

سابعا‏:‏ إن الإمام محمد عبده نادي بفكرة الطبيعة المدنية للدولة وتنزيه الإسلام عن الانغماس في اللعبة السياسية وهي قائمة علي المناورة وعلي مبدأ‏:‏ ليس هناك صداقة دائمة ولا عداوة دائمة ولكن هناك مصالح دائمة وربما تلجأ السياسة إلي نظرية مكيافللي الغاية تبرر الوسيلة وكان يلعن السياسة ويطالب رجال الدين بالابتعاد عنها‏.‏

ثامنا‏:‏ إن الدستور المصري يلزم الدولة بأن تكون تشريعاتها مصدرها مباديء الشريعة الإسلامية بما يعني ألا تكون فيها معارضة لحكم شرعي قطعي‏,‏ والاحكام الشرعية في الفقه ليست كلها قطعية‏.‏

تاسعا‏:‏ إن الخلط بين ماهو ديني وماهو سياسي أدي في مرحلة إلي اعتبار الاشتراكية هي تطبيق للشريعة الإسلامية وفي مرحلة أخري اعتبرت الرأسمالية ومعاهدة السلام مع إسرائيل هي التطبيق للشريعة‏,‏ واعتبرت هزيمة‏67‏ عقابا من الله‏.‏ وقام بعض الفقهاء باضفاء الشرعية الدينية علي زيارة الرئيس السادات للقدس‏..‏ وهكذا فإن الدين يمكن أن يستخدم في لعبة السياسة‏,‏ ومناوراتها ومواقفها المتغيرة‏,‏ وهذا ما فعلته جماعات الإسلام السياسي أيضا حين قررت قتل المسلمين المسالمين علي أنه فريضة دينية ثم تراجعت وقررت أن ذلك مخالف للدين‏!‏

عاشرا‏:‏ عند الحديث عن تطبيق الشريعة الإسلامية يجب التفرقة بين ماهو ممكن الآن وماهو ممكن في المستقبل حين تتغير الظروف الدولية وأحوال المجتمع‏,‏ والتفرقة كذلك بين ماهو عملي وماهو مثالي يحلق بعيدا عن الواقع‏..‏ فإذا كان في القوانين الحالية أو القادمة مخالفة لدليل قطعي فإن المحكمة الدستورية كفيلة بإلغاء هذا القانون وقد فعلت ذلك وتفعله دائما‏,‏ وإن كان القانون مخالفا لدليل ظني فهو محل اجتهاد علي أساس المصلحة‏.‏ مع ملاحظة أن كثيرا من القوانين لا يحتاج إعدادها إلي فقهاء في الشريعة بقدر احتياجها إلي فقهاء في الاقتصاد والهندسة والعلوم الاجتماعية‏.‏

ويجب ألا نغفل عما نبه إليه المفكر الإسلامي المستشار طارق البشري إلي أن عصر الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ عصر تنزيل الرسالة‏,‏ وصدور السنة هو عصر فريد في ذاته ومنفرد‏..‏ أي أنه لم يتكرر ولن يتكرر وكل ما جاء بعده ليس سوي تجارب انسانية لمجتمعات وعلماء وفقهاء هم رجال من الرجال نأخذ من أقوالهم ونترك وفقا لظروف عصرنا واعتبارات المصلحة‏.‏





جميع الحقوق محفوظة للمؤلف