في الوقت الذي يحقق فيه الغرب طفرات انتقل بها من مرحلة التخلف إلي مراحل العصر الصناعي, ثم إلي عصر المعلومات, ثم إلي العصر الالكتروني والنانوتكنولوجي والفمتوثانية, فإن معظم المجتمعات الإسلامية تنغلق علي نفسها وعلي تصوراتها وأهدافها القديمة, وتتمسك بما توصل إليه بعض مفكري القرون الوسطي.
وبينما يتزايد التقدم والتغير في الغرب, يتزايد التخلف السياسي والثقافي والاقتصادي في العالم الإسلامي, ويتزايد فيه الضغط السكاني, وتتزايد أزمة العجز ـ أو القصور ـ عن تكوين مؤسسات سياسية دستورية حديثة شرعية وفاعلة.
الأصوليون لا يرون خلاصا للمسلمين مما هم فيه من تبعية وضعف وتخلف إلا بالعودة إلي أساليب الحكم التي أثبتت جدواها في القرون الوسطي, متجاهلين ما طرأ من تغيرات هائلة في الفكر والنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. بعض المثقفين يكررون دعوة المجتمعات الإسلامية بالاسراع في الأخذ بالنظم والافكار المعاصرة, وبعضهم الآخر يرون أن العالم الإسلامي عاجز عن استيعاب الحداثة بسبب تسلط الأصولية, ويؤمنون بأن العلم الحديث صار حكرا للغرب, بعد أن اتسعت هوة التخلف التي تفصل العالم الإسلامي عن تيار العلم بمعناه الحقيقي وهم مقيدون باجتهادات السابقين, مع أن هؤلاء السابقين كانوا لا يترددون في تغيير المواقف والأحكام مع تغير الزمان والمكان, وكانوا يدركون أن الإسلام دين من عند الله والسياسة من صنع البشر, والإسلام عقيدة ثابتة لا يطرأ عليها التغير والسياسة دائمة التغير والتلون وفقا للمصالح, والحقيقة الدينية مطلقة بينما الحقائق السياسية نسبية, وكل ما هو بشري نسبي يحتمل الصواب والخطأ ويقبل التغير, والتعصب للرأي دليل علي الجمود والكسل العقلي,
ومن يستخدم العنف لفرض رأيه هو صاحب الحجة الضعيفة الذي لا يقدر علي الحوار والمجادلة.
هذا العصر لم يعد يتقبل قيام سلطة قمع باسم تطبيق الشريعة.. هذا العصر هو عصر الحريات.. حرية الاعتقاد, وحرية الفكر, وحرية القول.. هو عصر يطبق تماما إرادة الله من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ولكم دينكم ولي دين والله يفصل بينهم يوم القيامة فيما هم فيه مختلفون.. وكل ذلك يتعارض مع حملة التعبئة التي يقوم بها أنصار تيار الإسلام السياسي في هذا العصر.
والغريب أن بعض أنصار الاسلام السياسي يتحدثون عن تقسيم العالم إلي دار السلام ودار الحرب, ويعتبرون كل البلاد غير الإسلامية دار حرب بالنسبة للمسلمين, وهذه النظرية فيها مخالفة صريحة للإسلام الذي يقرر أن الحكمة من خلق الله للناس شعوبا وقبائل مختلفة أن يتعارفوا ويتعاونوا ويتبادلوا المنافع فيما بينهم, وإن كانت نظرية دار السلام ودار الحرب قد وردت في كتابات بعض قدامي المسلمين فهي غريبة عن تيار الفكر الإسلامي في عمومه, ولم يرد بها نص في الكتاب أو السنة, ولم يذكر أحد مشروعية الحرب علي الأعداء إذا جنحوا إلي السلم, بل إن القرآن يأمر بعكس ذلكم وان جنحوا للسلم فاجنح لها..
وإذا كان أنصار الإسلام السياسي ـ بمفهومه الرجعي ـ لديهم الفرصة والقدرة علي استخدام أساليب متعددة للتغلغل بين الجماهير وجذب قطاعات واسعة نسبيا من محدودي الثقافة والمعرفة بصحيح الدين, فإن ذلك دليل علي قصور الحكومات والاحزاب والمؤسسات الدينية والثقافية والقوي الحاكمة عموما, وهي التي تملك المدرسة والجامعة والجامع والجريدة والكتاب والتليفزيون والمسرح والسينما وهي قوي قادرة علي نشر المفاهيم الدينية الحديثة, والتصدي للفكر الرجعي وإعداد العقول لمواجهة التحدي الحضاري, وهي قادرة علي مخاطبة القطاعات الصامتة والمهمشة والسلبية في المجتمع, واستعادتها للانضمام إلي تيار الحداثة.
إن أصحاب الفكر الذي يخلط بين الدين والسياسة يدعون أنهم يؤمنون بالديمقراطية, وهذا غير صحيح, ماداموا يعتبرون أنفسهم الممثلين الوحيدين للشريعة والناطقين وحدهم بأحكام الله وإرادته, فمعني ذلك تحريم الاختلاف معهم حتي في أبسط الأمور, وليس أمام الناس إلا السمع والطاعة, وليس لأحد من عامة الناس أن يبدي رأيا لأن الرأي حكر علي الزعماء الذين يشكلون هيئة الشوري وبيدهم وحدهم الحل والعقد, والديمقراطية تتعارض مع احتكار القلة للرأي والحكم وتؤمن بالرجوع إلي الشعوب, وتعليق القرار علي رأي الأغلبية وليس الأقلية مهما كانت منزلتها التي تدعيها.
وقد حدث في الأيام الأخيرة ما يؤكد التخوف من ترك قضايا المجتمع ومستقبله لفرد أو لمجموعة من الأفراد مهما كانت منزلتهم. فقد انتجت شركة سعودية فيلما سينمائيا, وكانت هذه أول مرة يعرض فيها فيلم في داخل السعودية ومن انتاج سعودي, فثار هجوم عنيف علي الفيلم ومنتجيه من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ووصف رئيس الهيئة ـ الشيخ إبراهيم الغيث ـ السينما عموما بأنها الشر الكبير وأعلن في فتواه لسنا في حاجة إليها, ويكفي الشر لدينا, ولكنه في اليوم التالي تراجع عن فتواه, وأعلن أنه ليس هناك ضرر من السينما مادامت تعرض ما يتماشي مع تعاليم الإسلام. ولنا أن نتصور لو أن رجال الدين كانت لهم القيادة السياسية وسلطة القرار أي فوضي يمكن أن تحدث نتيجة ربط كل رأي بالإسلام وادعاء أن ما يقوله فلان هو كلمة الله وحكم الشرع..؟