تجديد العقل اولا 4

من حقنا أن نختلف أو نتفق مع ما يقال عنا من الآخرين‏,‏ ولكن من واجبنا أن نعرف ما يقال‏,‏ ونفكر فيه‏,‏ ثم نحكم عليه ونستفيد منه‏.‏


ففي بداية القرن التاسع عشر تزايد اهتمام الباحثين والمستشرقين والرحالة في الغرب بدراسة العقل العربي والإسلامي‏,‏ ولايزال هذا الاهتمام الي اليوم‏,‏ وبالطبع فإن هذه الدراسات ليست بقصد تجديد هذا العقل ومعالجة سلبياته وتعظيم إيجابياته‏,‏ أو لإعادة بنائه ليتوافق مع طبيعة العصر‏,‏ ولكنها غالبا بقصد خدمة مصالح الدول الكبري ومساعدتها علي وضع الاستراتيجيات والخطط لسياسات الهيمنة السياسية‏,‏ والغزو الثقافي‏,‏ وفتح الأسواق‏,‏ واستنزاف الثروات‏,‏ والسيطرة علي المواقع الاستراتيجية وفرض التبعية علي العالم العربي والإسلامي‏.‏


يمكننا أن نفهم لماذا يهتم الغربيون بتشريح العقل العربي والإسلامي‏,‏ ولكن من الصعب أن نفهم لماذا التقصير من جانب الباحثين العرب والمسلمين في التعمق في هذه الدراسة‏,‏ وهي البداية الطبيعية والأساس لمشروع النهضة والتحديث إن كان ثمة مشروع لذلك‏,‏ أو كانت هناك إرادة لإعداد مثل هذا المشروع‏.‏


وفي الدراسات الغربية نجد الكثير من الأوصاف والأحكام علي العقل العربي والإسلامي‏,‏ منها ما هو حقيقي ومنها ما هو زائف بحسن نية أو بسوء قصد‏..‏ ومعروف أن وزارة المستعمرات البريطانية كانت الأكثر اهتماما بإرسال العلماء والمستشرقين لدراسة أحوال العرب والمسلمين‏,‏ خاصة أحوالهم العقلية والثقافية‏,‏ وقبل ذلك كان علماء الحملة الفرنسية قد أنجزوا مشروعا متكاملا لوصف مصر والمصريين‏,‏ بما في ذلك القيم والعادات والثقافة والخصائص العقلية السائدة‏..‏ ولا تخفي دوافع وأهداف هذه الدراسات علي أحد‏.‏


وفي الدراسات الحديثة نجد أيضا الكثير عن العقل العربي والإسلامي مثل‏:‏ الميل الي المبالغة‏,‏ والتكرار‏,‏ والاكتفاء بالكلمات اعتقادا بأن الكلمة تغني عن الفعل‏,‏ وسيادة القيم البدوية أو قيم المجتمع الزراعي‏,‏ وعدم القدرة علي الوصول الي قيم المجتمع الصناعي الحديث‏,‏ وعدم تقدير قيمة الوقت أو احترام قيمة العمل اليدوي‏,‏ والحساسية الزائدة للكرامة‏,‏ والمبالغة في تقدير الذات وفي إظهار المشاعر‏,‏ والمجاملة الي حد النفاق والكذب والمبالغة في التهديد دون استعداد لتنفيذه‏,‏ وشن الحرب بالكلمات النارية بدون حرب حقيقية‏,‏ وسيطرة الهواجس‏,‏ والتوجس من الغرب والنظر الي الغرب علي أنه عفريت وأن كل ما يأتي منه مؤامرة‏,


‏ وتقديس الماضي وإسباغ هالة من الفضائل والكرامات‏,‏ علي الأسلاف والموتي والتقليل من شأن الأحياء‏,‏ وتركز بعض الدراسات علي أن الفردية وتضخم الذات من ناحية‏,‏ وازدواج الشخصية من ناحية أخري هما أهم سمات العربي والمسلم‏,‏ وإشارات كثيرة عن التسليم الجماعي بتفوق الرجل وخضوع المرأة‏,‏ والمرأة العربية والمسلمة تعمق في عقلها الشعور بالنقص أمام الرجل‏,‏ منذ ميلادها وحتي قبل ذلك‏,‏ في فترة حمل الأم ـ فالأسرة تتمني الولد دائما ـ وتنعكس هذه الصورة النمطية علي الأسرة وعلي المعاملات وعلي النظام الاجتماعي كله‏.‏


ويقال إن العقل العربي والإسلامي أصابه الضمور بسبب تراجع دور المثقفين والمفكرين وسيطرة السياسيين حتي أصبح المفكر هو الذي يتبع السياسي والوضع الطبيعي أن يحدث العكس فيتقدم المفكر والفكر لإنارة الطريق وتوسيع مجال الرؤية للسياسي‏..‏ ويقال أيضا إن هذا العقل فيه ميل الي إصدار الأحكام واطلاق الأوصاف العامة دون اعتماد علي المعلومات‏,‏ ويفضل الاستهلاك والاستسهال بدلا من تحمل مشقة العمل والإنتاج حتي أصبح الاقتصاد السائد في معظم البلاد العربية والإسلامية‏,‏ اقتصاد ريعي واستهلاكي يعتمد علي استيراد معظم احتياجاته الضرورية وغير الضرورية‏,‏ ولا يعتمد علي الانتاج والصناعة والزراعة كما في الغرب‏,‏ وانتقل ذلك الي كل أوجه الحياة‏,‏ فأصبح استيراد الفكر ونقله عن الآخرين هو الأكثر شيوعا بدلا من بذل الجهد في الابتكار والتفكير وإنتاج أفكار جديدة‏.‏


والعقل العربي والإسلامي في هذه المرحلة في حالة ارتباك وتردد وعدم وضوح الرؤية‏,‏ وأدي ذلك الي ارتباك في العلاقات مع العدو والصديق والشقيق‏,‏ وليس واضحا بدرجة كافية في هذا العقل تحديد الموقف المبدئي من القوي والتيارات والنظريات السائدة في الداخل والخارج‏,‏ ولم يتمكن هذا العقل من حسم القضايا المصيرية‏,‏ وهو منقسم انقساما واضحا إزاء النهضة‏:‏ موقف يري أن النهضة لن تتحقق إلا بتطبيق ونقل كل ما في الغرب‏,‏ والنماذج كثيرة في العالم العربي والإسلامي لمجاذيب أمريكا‏,‏ ومجاذيب أوروبا‏,‏ والمؤمنين بأنه لا صلاح للعالم العربي والإسلامي إلا بما صلحت به أوروبا وأمريكا‏,‏ وهؤلاء يريدوننا أن نكون أمريكا أو أوروبا دون اعتبار لاختلاف الظروف والمقومات والتطورات الاقتصادية والتاريخية بيننا وبينهم‏..‏ وعلي النقيض من ذلك هناك نظرية الذين يرون أن لنا خصوصية في كل شيء‏,‏ وأن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا‏,‏ ويدعون بناء علي ذلك الي الانغلاق علي الذات وسد الأبواب والنوافذ أمام الحضارة الحديثة‏,‏ وأمام كل ما هو أجنبي ويعتبرون ذلك تمسكا بالأصالة وحرصا علي الهوية‏.‏


 



جميع الحقوق محفوظة للمؤلف