لماذا توقف العقل العربي والاسلامي عن الابداع, وتخلف في السباق العالمي في مجالات العلوم والتكنولوجيا, واستسلم للخرافة والأساطير والشعوذة؟
هل السبب هو طبيعة العقل العربي والاسلامي كما يدعي بعض المستشرقين؟
أم هو الاستعمار الغربي الذي عمل بكل قوة علي إبقاء العقل الخاضع له في أشد حالات الجهل ورسخ فيه فكرة استحالة اللحاق بمن تقدموا وسبقوا؟ أم هي نظم الحكم التي عملت بنظرية أن حكم شعب جاهل وجائع ومتخلف أسهل من قيادة شعب متعلم وغني وواع وقادر علي المشاركة عملا بنظرية جوع كلبك يتبعك التي ابتدعها الطغاة علي مدي التاريخ؟.. أم هي هذه الأسباب جميعها اجتمعت في مرحلة واحدة فأصابت العقل العربي والاسلامي بالعجز والشلل لقرون طويلة, وعندما تخلص من بعض قيوده وأراد تعويض مافاته توقف عند مرحلة ترديد نظريات الآخرين دون إضافة, وشراء التكنولوجيا الجاهزة دون السعي الي امتلاك أسرارها والتعامل مع المناهج والنتائج العلمية وبناء مؤسسات وكوادر لصناعة التقدم في الفكر والعلوم والتكنولوجيا بالمعايير والمواصفات العالمية؟.
قد يضاف الي ذلك الفقر, والأمية, واللجوء الي الشعوذة والدجل بدلا من مواجهة المشاكل بحلول عملية وواقعية ولا تنتظر الحلول من قوي خفية, ومعروف في الدراسات الأنثروبولوجية أن الإيمان بالسحر والخرافة مرتبط بمرحلة طفولة العقل الانساني والمجتمعات البدائية, وكلما ارتقي المجتمع وارتقي العقل فإن الإيمان بالسحر والخرافة يتراجع ويتقدم التفكير العلمي والمنطقي.. ولذلك لابد أن يثير القلق مايقوله الباحثون الاجتماعيون من أن المصريين ينفقون اكثر من مليار جنيه كل شهر في اعمال السحر والشعوذة, وأن في مصر أكثر من عشرة آلاف دجال يتكسبون من هذه الأعمال, وهذه الظاهرة ليست مقصورة علي المجتمع المصري وحده, ولكنها موجودة في المجتمعات العربية والاسلامية دون استثناء, بسبب قصور في العقل, ولو أن هذا العقل يؤمن بدرجة كافية بمبدأ السببية لما كان لهذه الظاهرة وجود, ودون الدخول في قضايا فلسفية فإن هذا المبدأ يعني أن كل ظاهرة وكل مشكلة يجب البحث فيها عن السبب المباشر لها في عالم الواقع وليس في عالم آخر غير عالم الواقع. فالفقر له أسباب واقعية: الجهل ـ الكسل ـ النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي..
الخ ولكن العقل العربي الاسلامي يعلقها علي شماعة القضاء والقدر, وفشل الزواج سببه عدم التوافق أو نقص في التربية يدفع الزوجين الي الحياة معا دون إعداد سابق وليس سببه القسمة والنصيب, والفشل في مشروع ما, أو الفشل في الحياة عموما مرجعه سوء التصرف أو عدم المعرفة او قلة التجربة أو الحماقة.. وباختصار فإن الانسان هو المسئول عن النجاح والفشل والمجتمع( الأسرة ـ المدرسة ـ الثقافة ـ الاعلام ـ التوجيه الديني) هوالمسئول عن اعداد الانسان الناجح أو الفاشل, القادر أو العاجز, وليس المسئول هو القضاء والقدر, ولا يجب أن نلصق العجز والفشل والتخلف الي الادارة الالهية, والله هو القائل: وأن ليس للانسان إلا ماسعي.., وفي هذا إعلان لمسئولية الإنسان وعدم انتظار تدخل السماء في كل أمر من أمور حياته, لأن السماء لاتمطر ذهبا ولا فضة, كما كان يقول الخليفة والصحابي الجليل عمر بن الخطاب.
ويفسر ذلك مايقوله المفكر الجزائري محمد أركون من أن العقل العربي والاسلامي انفصل ـ منذ عصور الظلام والاستبداد والاستعمارـ عن العقل العربي والاسلامي في عصور الاجتهاد والنهضة الفكرية والعلمية, وابتعد العقل المعاصر عن المؤلفات والأفكار الكبري التي أنتجها العقل العربي والاسلامي في العصر الذهبي, فلا تجد ماكتبه ابن رشد مثلا في موقعه الصحيح من الفكر العربي والاسلامي اليوم, بل وتجد من يردد كالببغاء أن فكر ابن رشد غير اسلامي, مع أن ابن رشد كان قاضي القضاة في قرطبة الاسلامية.
ومع هذه الأسباب نجد التوظيف السياسي للاسلام, فالمعارضة السياسية تستخدم الدين ستارا تخفي وراءه الأجندة السياسية ونواياها الحقيقية لكي تبدو في صورة من البراءة والفضيلة تجذب العامة, وفي نفس الوقت فإن الدول الاسلامية هي ايضا توظف الدين لمواجهة التيار الديني ـ السياسي, وهكذا يبدو العقل حائرا بين اسلام يحكم واسلام يعارض وكأن هناك أكثر من اسلام, ومن ناحية أخري فان مفهوم العروبة أو القومية العربية يبدو غامضا لدي البعض ومرفوضا من البعض الآخر, لذلك نجد أركون يدعو الي تفكير خاص لكل مجتمع عربي واسلامي نابع من تاريخه ومصيره الذي يختلف عن تاريخ ومصير اي مجتمع عربي واسلامي آخر, ويبرر ذلك بأن تاريخ الجزائر مثلا غير تاريخ المغرب او تونس وتاريخ مصر مختلف عن تاريخ العراق, وهكذا كل بلد عربي او اسلامي له خصوصية تجعل من الضروري الخروج من التصور الذي طغي علي الفكر العربي عن القومية العربية ذات الرسالة الخالدة, وهو تصور يراه أركون خياليا وغير قابل للتحقيق.
وهذه اشكالية أخري تسبب القلق للعقل وتجعله بين شد وجذب لاينتهي ولا يستقر ويفرغ من هذه التناقضات ويتجاوزها ويتحرك لتحقيق النهضة وبناء المستقبل.