..‏ ولماذا لا نقرأ ؟

علي الرغم من أن كل مسلم يعلم جيدا أن أول أمر من الله لرسوله ـ صلي الله عليه وسلم ـ هو اقرأ‏,‏ وأن هذا الأمر الإلهي ملزم لسائر المسلمين في كل زمان ومكان‏,‏ فإن الجميع يعترفون بأن أمة اقرأ لا تقرأ‏,‏ وأنها لذلك خسرت ـ وتخسر ـ كثيرا‏.‏


ولم يكن غريبا أن يعبر المفكر المعروف الدكتور كمال أبوالمجد عن هذه الحالة بقوله‏:‏ إن في الأمة ملايين لا تقرأ‏..‏ ولا تحب أن تقرأ‏,‏ ولا تحب من يقرأ‏,‏ وأن هذا هو تراثنا الإسلامي‏,‏ ولو أن المسلمين يقرأون لتغير حالهم‏,‏ وأصبحوا أمة متعلمة‏,‏ متحضرة‏,‏ وتدرك أنها في خطر‏,‏ فتحشد قواها لتحقيق النهضة التي لا تتحقق بالنوايا الطيبة‏,‏ أو بأحلام اليقظة‏,‏ ولكن تتحقق حين تعلو سلطة العقل والعلم فوق كل سلطة‏..‏ ويجب ألا نكتفي بحساب عدد النسخ من الكتب التي تباع‏,‏ فهي علي كل حال لا تمثل‏10%‏ مما يجب أن تكون عليه‏,‏ ويجب التفرقة في الحساب بين شراء الكتب وبين قراءتها‏,‏ فهناك نسبة ممن يقبلون علي شراء الكتب يفعلون ذلك لمجرد الوجاهة وادعاء الثقافة‏,‏ أو بدافع حب التملك‏,‏ أو لمجرد أنها سلعة رخيصة‏,‏ وأذكر أن أستاذنا الراحل الدكتور سيد أبوالنجا قال لي وهو رئيس لدار المعارف إنه تعاقد علي استيراد كميات من دائرة المعارف البريطانية لأول مرة في مصر‏,‏ وهي تضم مجموعة كبيرة من المجلدات‏,‏ فكان معظم الذين طلبوا شراءها اشترطوا أن تكون مجلدة بلون كذا لكي تتفق مع ديكور الغرفة‏,‏ فمعظمهم وضعوها علي أرفف مكتباتهم كجزء من الديكور‏(!)‏


وحتي الذين يقرأون‏,‏ فإن منهم من لا يتوقفون أمام الأفكار ليتعلموا‏,‏ ويناقشوا‏,‏ وكما يقول الدكتور أبو المجد‏,‏ فإن الملايين من المسلمين يقرأون القرآن ليل نهار ولا يعرفون معاني الآيات ومقاصدها‏,‏ ولا تضيف إليهم هذه القراءة بصيرة أو علما‏,‏ ولا تغير من سلوكهم وتعاملهم مع الأحداث والناس‏,‏ ولا يكتسبون القدرة ـ نتيجة الوعي والعلم ـ علي إدراك أن ما يردده المفسرون نقلا عن كتب مرت عليها مئات السنين‏,‏ بينما تغير الزمان والمكان‏,‏ وأن انحصار الفكر في أقوال الأقدمين من نتاج القرون الماضية هو الذي أدي إلي التشدد والتعصب والمفاهيم المغلوطة‏,‏ وإباحة حرمة الدماء‏,‏ ولا خير في علم لا يستند إلي العقل ولا يؤدي إلي الرشد‏,‏ ولا ينتهي بالعمل‏,‏ وكان الإمام مالك يعبر عن ذلك بقوله‏:‏ لا أحب علما ليس وراءه عمل‏.‏


حقيقة أن العلم لم يعد في الكتاب وحده‏,‏ ووسائل العلم متاحة علي الإنترنت وفي بعض الصحف وبعض وسائل الإعلام‏,‏ ولكن يبقي الكتاب هو الوسيلة الأساسية للمعرفة‏,‏ وللثقافة الجادة‏,‏ وتجربة سلامة موسي تستحق التأمل‏,‏ فهو يروي كيف أنه في سنوات إقامته في أوروبا قرأ من الكتب ما يشع النور في عقله ويبعث الشجاعة في قلبه‏,‏ ويدفعه إلي أن يقرر أن يكون متمدنا ومثقفا‏,‏ وبالقراءة اتصل عقله بأكبر العقول القديمة والحديثة وتخلص من أفكار القرون المظلمة‏,‏ واكتسب المعرفة وتحمل بهذه المعرفة مسئوليته الاجتماعية وأدرك خطورة الخرافات التي وقع فيها الإنسان‏,‏ وكيف انتقل من الإيمان بالسحر والخرافة إلي الإيمان بالعلم والتجربة‏,‏ ومن أوهام قراءة الغيب إلي حقائق قراءة الواقع‏,‏ ومن ذلة الرق والتبعية الفكرية إلي شرف الاستقلال الفكري‏,‏ وفتحت الثقافة له آفاقا من التأمل والقدرة علي التفكير المستقل‏,‏ وجعلت حياته أكثر حيوية‏,‏ وفهمه للكون أعمق ولم يعد يطبق عبث الأطفال الذين يقيدون حرية الفكر‏,‏ أو يجهلون قيمة الكتب‏,‏ أو يتمسكون بالخرافات‏,‏ أو يرفضون الفكرة أو الحقيقة العلمية‏,‏ لأنها لم ترد في كتب الأقدمين‏..‏ ولاشك أن الحروب والمعاهدات تغير

حياة البشر‏,‏ والحقيقة أن التغيير يحدث نتيجة لتقدم المعرفة‏,‏ وظهور ابتكارات وآلات وأساليب جديدة هي أسلحة التغيير‏,‏ والكتب هي الوعاء للأفكار والنظريات الجديدة‏,‏ فالسياسي والعسكري يسيران خلف المفكر والمخترع‏..‏ فالدنيا تغيرت بالكتب‏.‏


كتب الدين غيرت النفس البشرية‏,‏ والحرب الباردة بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية كانت نتيجة كتاب ألفه كارل ماركس‏,‏ والنظام الرأسمالي التقليدي كان نتيجة كتاب ألفه آدم سميث‏,‏ والنظرية النازية المدمرة تبلورت في كتاب هتلر كفاحي‏,‏ وهناك كتب غيرت النفوس والمعتقدات‏,‏ وبعضها اثار الخلافات والمصادمات ولايزال يثيرهما إلي اليوم مثل كتاب نيتشه عن مذهب القوة‏,‏ أو كتاب داروين عن أصل الأنواع ونظرية النشوء والارتقاء‏,‏ أو مثل كتب الفلاسفة وغلاة التصوف‏,‏ وهناك عشرات الكتب التي تنمو وتتفرع وتتوالد بما لم يكن يتوقعها مؤلفوها‏,‏ وأقرب مثال كتاب أينشتين الذي قاد الباحثين إلي إنتاج الطاقة الذرية والقنبلة الذرية‏..‏ ومن تربي علي كتب المؤلفين العظام لا يمكن أن يرتكب جريمة من جرائم الإرهاب أو جريمة الحجر علي العقل الإنساني‏,‏


وفي المجتمع الحي المتحرك تظهر الأفكار الجديدة والكتب التي تحرض علي التفكير وعلي التغيير وعلي إعادة النظر في المسلمات والقيم السائدة‏,‏ أما في المجتمع الراكد‏,‏ فإنه يتحرك في دائرة مغلقة يعيد ويزيد فيها نفس الأفكار‏,‏ ويحرص علي الإبقاء علي كل تراث الأقدمين‏,‏ ويسبغ عليه قداسة تجعل التجاوز والتقدم إلي الأمام مستحيلا‏.‏


كيف يدرك كل عربي ومسلم قيمة القراءة ليحقق لنفسه ولمجتمعه الرقي والتقدم‏..‏


هذا سؤال يستحق أن نواصل البحث عن إجابة عنه‏.‏


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف