يبدو أن الفساد أصبح مرضا عالميا مثل السرطان والإيدز وإنفلونزا الخنازير! فعلي الرغم من الانضباط الشديد الذي يميز الصينيين, والقوانين الصارمة, وقبضة الدولة الحديدية, فإن الفساد يمثل مشكلة من أهم المشاكل التي تستنفر أجهزة الرقابة والمحاسبة وتجعلها لا تفرق بين فساد الصغار وفساد الكبار, فالفساد في المفهوم الصيني الآن, هو الخطر الأكبر الذي يهدد كل ما تحقق من تنمية وتقدم, ولذلك, فإن الشعار المرفوع الآن: لا مهادنة ولا تهاون مع الفاسدين مهما تكن أقدارهم.
قال لي رئيس لجنة الانضباط في الحزب الحاكم, إن هذه اللجنة تراقب سلوك كل عضو في الحزب, من أعلي المستويات إلي أدناها, وتفحص الذمة المالية وتطور ثروة كل منهم, وتحقق في كل شبهة انحراف مالي, أو سياسي, أو استغلال للنفوذ, وكلما كان منصب الشخص كبيرا كان الحساب أشد, لأن الكبار هم القدوة والمثل الذي يقول إن السمكة تفسد من رأسها هو في الأصل مثل صيني.
وحدثني المسئول عن الانضباط عن وزير صدر عليه الحكم بالإعدام بعد محاكمته وثبوت تهمة التربح واستغلال النفوذ, وقال لي: إن سياسة الانفتاح تفتح الباب أيضا لإغراءات لا يستطيع مقاومتها ضعاف النفوس, فهناك دائما من هم علي استعداد لتقديم الرشاوي والعمولات واقتسام الأرباح مع من يسهل لهم تحقيق الثروة بطرق ملتوية علي حساب المصلحة العامة, لذلك نعمل علي أن يكون العقاب رادعا لكي يجعل كل من يتعامل مع المال العام يفكر ألف مرة قبل أن يسلك طريق الانحراف.. وحكي لي عن حكم بالإعدام نفذ في شخصية قيادية كان يتولي منصب رئيس حكومة الحكم الذاتي لمقاطعة كوان شي, بعد ثبوت التهمة عليه, وحكم الإعدام هو الحكم المناسب, وبقدر المنصب والسلطة يكون الحساب والعقاب, وإذا تهاون المجتمع مع الفاسدين الكبار, فسوف يصبح الفساد ظاهرة عامة ويخرب كل شيء.
ويبدو أن قصص الفساد ومحاكمات الفاسدين هي الحديث المفضل في جلسات السمر, فقد استمعت إلي قصص أخري, منها قصة عضو بالمكتب السياسي المركزي في الحزب الحاكم, وكان في الوقت نفسه الأمين العام للحزب في العاصمة بكين, حوكم بتهمة الفساد وصدر عليه الحكم بالسجن والفصل من مناصبه وحرمانه من لعمل السياسي ومن الوظائف العامة.
لجنة الانضباط تتلقي شكاوي من المواطنين, وتهتم بفحص كل شكوي علي أساس أن الناس العاديين هم الأقدر علي رؤية كل شيء بعيونهم ومصالحهم تتأثر بالفساد وتضيع حقوقهم إذا تصادمت مع المحسوبية واستغلال النفوذ أو الرشوة أو طلب منافع مقابل تمرير صفقة أو تسهيل الاستيلاء علي المال العام بالغش, وكل من تتجمع أدلة كافية لاتهامه ـ بعد التحقيق ـ يحال إلي المحكمة المختصة, وينال العقاب الصارم إذا ثبتت التهمة
من الضروري أن يشعر المواطنون أنهم يعيشون في دولة القانون, وأن سيف القانون لا يفرق بين الكبير والصغير, وفي برامج التعليم والإعلام تركيز شديد علي قيم الطهارة والحفاظ علي المال العام, وعلي وسائل الإنتاج ومرافق الخدمات, سواء كانت عامة أو خاصة, وأضاف المسئول الحزبي الكبير: نحن نعلم الأطفال أن يحذروا من التركيز علي المكاسب المادية والحصول علي الأموال علي حساب المبادئ والأخلاق, ولذلك نرفع شعار يجب أن يكون حكم البلاد بالقانون وبالفضيلة معا.. لذلك نهتم بغرس الكبرياء الوطني والاعتزاز بالنفس ومواجهة الرواسب الثقافية القديمة.
قال لي المسئول الصيني: نحن علي وعي بخطورة تجمع أصحاب النفوذ ليشكلوا جماعات مصالح أو مراكز قوي ويتبادلوا توزيع ثروة البلاد علي أنفسهم.. شعارنا أن كل من يتولي موقعا قياديا يجب أن يكون أول من يضحي وآخر من يستفيد.. ولدينا مشكلة, فالصين فيها55 قومية, و1250 مليون نسمة, وهي لاتزال دولة نامية, ولذلك يجب أن تكون الدولة قوية وإلا ستقع في فوضي وتفكك.
نحن في معركة منذ ثلاثين عاما من أجل إعادة بناء كل شيء في الصين, ونفعل ذلك في ظروف دولية تسعي إلي عرقلة تقدمنا, وفي رواسب الماضي ما يعوق تقدمنا أيضا, ومع الانفتاح, تغيرت تركيبة الطبقات الاجتماعية, وظهر رجال الأعمال, ومديرو الشركات الكبري, والمستثمرون, والتكنوقراط, وظهر السماسرة والوسطاء وأصحاب المشروعات الخاصة الكبيرة والصغيرة, وزادت أعداد الذين ينتقلون من القطاع العام إلي القطاع الخاص, حيث الدخول والمزايا الأكبر, وباختصار أسهمت سياسة الانفتاح في تطور القوي المنتجة في المجتمع في جميع المجالات الصناعية والتجارية, وهذا التحول لابد أن يكون مصحوبا بالرقابة والمحاسبة وتطبيق القانون بمنتهي الدقة, وإلا يحدث الانفلات, ونحن نعمل علي تغيير نظرية العمل وقيمته, ونواصل بناء اقتصاد السوق الاشتراكية لضمان تحسين مستوي معيشة الشعب, بحيث لا يكون اقتصاد السوق لمصلحة فئة وعلي حساب حرمان القاعدة العريضة من الشعب.
هذا بعض ما سمعته وقيل لي إنه من أسرار تقدم الصين.