صديقى مصطفى محمود 2

عاش مصطفي محمود حياته بالطول والعرض‏,‏ ومر بتجارب وتحولات تبدو في ظاهرها متناقضة‏,‏ ولكنها كانت تجليات لمعاناته في رحلته الطويلة للبحث عن لغز الحياة والموت‏,‏ واسرار الكون والانسان‏,‏ ومعجزات الخلق والخالق‏.‏


عاش نصف عمره مع الفلسفة‏,‏ والشك‏,‏ وفي النصف الثاني تفرغ للعلم والايمان‏,‏ زاهدا في كل ما يطمع فيه الناس‏,‏ وعاش في سنواته الاخيرة ـ وإلي اليوم ـ حياة الصوفي المستغرق في السكون والصمت والتأمل في خلوته‏..‏ وفي مراحله هذه ظل متابعا للأحداث والأفكار ورافضا لكل الدعوات والاغراءات لممارسة العمل السياسي وللمناصب الكبري علي الرغم من أنه كان مقربا من الرئيس السادات‏,‏ ويقضي معه الساعات في حوارات كان السادات يحب أن يديرها مع عدد من كبار المثقفين‏.‏


وقبل أن يعتزل الناس كانت له صداقات واسعة مع عدد كبير من كبار الشخصيات في مصر والبلاد العربية‏..‏ كتب عن الموسيقار محمد عبدالوهاب أنه كان صديقا قريبا منه‏,‏ ويحكي عنه أنه كان يبكي كالأطفال وهو يعترف بالذنوب التي اقترفها في حياته‏,‏ وما تلقاه من قصاص عادل عليها‏,‏ ويقول‏:‏ ان عبدالوهاب كان بداخله انسان مؤمن متدين‏.‏ وكانت الملكة السابقة فريدة من أصدقائه ايضا‏,‏ وكانت تتابع برنامجه التليفزيوني العلم والايمان وتتصل به بعد كل حلقة لتستفسر منه عن بعض ما جاء فيها‏,‏ وكثيرا ما كانت تسأله عن شرح آيات في القرآن توقفت عندها‏.‏ وفي فترة الشباب ارتبط بصداقات مع نجوم الصحافة والأدب والسياسة‏..‏ احسان عبدالقدوس‏.‏ وكامل الشناوي‏..‏ وأحمد بهاء الدين‏..‏ ويوسف السباعي‏..‏ ومحمود أمين العالم‏.‏


بدأ مصطفي محمود مفكرا وجوديا‏,‏ ثم صار مفكرا يساريا‏,‏ واخيرا استقر مفكرا اسلاميا واسع الأفق متسامحا إلي أبعد الحدود‏,‏ ومحاربا للتعصب بكل صوره‏,‏ ضاربا المثل بالرسول صلي الله عليه وسلم الذي آمن بكل الكتب وبكل الرسل ولم يفرق بين أحد من رسل الله كما ذكرت الآية الكريمة في أواخر سورة البقرة‏,‏ ومبديا تقديره للزعيم الهندي غاندي وهو هندوسي‏,‏ ومع ذلك كان يقرأ في صلواته آيات من القرآن والانجيل والتوراة تعبيرا عن ايمانه بكل عقيدة تقود الانسان إلي الخالق الواحد وإلي حياة الفضيلة‏.‏


وفي مرحلة الزهد والتصوف رأي أن الخلوة مع النفس ضرورية للانسان‏,‏ وأنها طوق النجاة من الحيرة والألم والقلق‏,‏ ففي لحظة التأمل يمكن أن نري الله بالبصيرة وليس بالبصر‏,‏ ويكتشف الانسان في داخله عظمة الله قبل أن يبحث عنها في خارجه‏,‏ ويتعرف علي القوي الهائلة الكامنة فيه والتي لايدركها إلا المخلصون في حياة التأمل‏,‏ ونري هذه القوي مثلا لدي بعض الهنود الذين يسيرون فوق الجمر الملتهب‏,‏ أو ينامون فوق المسامير الحادة‏,‏ أو يقدرون علي ابطاء نبضات القلب‏,‏ أو يحبسون أنفسهم داخل تابوت لمدة طويلة دون طعام ولا شراب‏,‏ وهذه القوي هي التي يدرسها العلماء تحت عنوان بارا سيكولوجي‏,‏ ولو تأمل الانسان ما يجري في داخل كل جزء من أجزاء جسمه‏,‏ وما يدور في نفسه وعقله‏,‏ وتأمل ماحوله من معجزات في الانسان والحيوان‏,‏ والطير وفي الطبيعة والكون والنظام البديع المذهل في كل ذلك‏,‏ فلن يجد أمامه إلا التسليم لله الذي ليس كمثله شيء‏.‏


أما كتاباته في الفكر السياسي فهي تدور حول التحذير المستمر من اطماع الاستعمار الجديد والعولمة والصهيونية العالمية التي تتخذ اشكالا متعددة وتنصب الفخاخ للمثقفين وللنخبة السياسية في العالمين العربي والاسلامي‏.‏ ولم يشتبك في معارك صحفية إلا مرة واحدة‏,‏ لأنه كان يري ألا يضيع وقته في معارك لا‏(‏ تؤدي إلا إلي الانشغال بما لايفيد‏),‏ ولذلك كان يلتزم الصمت ولايرد علي من يهاجمه‏,‏ ولكنه اضطر للدخول في معركة جذبت عددا كبيرا من كبار المثقفين حين نشر مقالا في جريدة الأخبار عام‏1987‏ بعنوان‏:‏ سقوط اليسار هاجم فيه الاشتراكية وعهد عبدالناصر وسياساته في مجانية التعليم التي أدت إلي انشاء مدارس بلا تعليم‏,‏ وتعيين جميع الخريجين في الحكومة والقطاع العام‏,‏ فكانت رشوة سياسية من خزانة مفلسة تسببت في انتشار البطالة المقنعة‏,‏ والنص في الدستور علي نصف المقاعد للعمال والفلاحين في البرلمان والمجالس الشعبية المنتخبة‏,‏ وهذا أمر لامثيل له حتي في روسيا أو الصين‏,‏ ورد عليه عبدالرحمن الشرقاوي بمقال عنيف في الاهرام قال فيه انه يرفض الارتزاق باليسار ويرفض أيضا الاتجار بالدين‏,‏ وأن الذي سقط ليس اليسار ولكن بعض اليساريين المرتزقة‏,‏ ولكن مصطفي محمود استمر يكتب مقالات ساخنة في الهجوم علي اليسار‏,‏ والشيوعية‏,‏ والصهيونية والمنظمات والجمعيات التي تتخذ أسماء مزيفة وتخفي حقيقة أهدافها الشريرة‏.‏


وتصف لوتس عبدالكريم في كتابهاعن مصطفي محمود بعد أن تتلمذت علي يديه سنوات طويلة بأنه عاقل جدا‏,‏ ومجنون جدا‏,‏ طيب جدا‏,‏ وقاس جدا‏.‏ عاطفي أحيانا‏,‏ ومتحكم في مشاعره أكثر الأحيان يبدو متحررا وهو وفي الحقيقة متحفظ جدا ـ هادئ وثائر ـ واضح وغامض ـ عميق وذكي ويبدو أحيانا غير ذلك‏.‏ ودائما يحفظ المسافة بينه وبين أقرب الناس إليه‏,‏ وهو ـ في النهاية انسان ليس من السهل أن يفهمه أحد‏.‏


أليس غريبا أن مفكرا وكاتبا كبيرا مثل مصطفي محمود وينجح البعض في اسدال الستار علي فكره وتاريخه وهو صاحب‏98‏ كتابا وآلاف المقالات والبرامج التليفزيونية وكان يوما ملء السمع والبصر‏,‏ أم هو الجحود؟


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف