عاش مصطفي محمود حياته بالطول والعرض, ومر بتجارب وتحولات تبدو في ظاهرها متناقضة, ولكنها كانت تجليات لمعاناته في رحلته الطويلة للبحث عن لغز الحياة والموت, واسرار الكون والانسان, ومعجزات الخلق والخالق.
عاش نصف عمره مع الفلسفة, والشك, وفي النصف الثاني تفرغ للعلم والايمان, زاهدا في كل ما يطمع فيه الناس, وعاش في سنواته الاخيرة ـ وإلي اليوم ـ حياة الصوفي المستغرق في السكون والصمت والتأمل في خلوته.. وفي مراحله هذه ظل متابعا للأحداث والأفكار ورافضا لكل الدعوات والاغراءات لممارسة العمل السياسي وللمناصب الكبري علي الرغم من أنه كان مقربا من الرئيس السادات, ويقضي معه الساعات في حوارات كان السادات يحب أن يديرها مع عدد من كبار المثقفين.
وقبل أن يعتزل الناس كانت له صداقات واسعة مع عدد كبير من كبار الشخصيات في مصر والبلاد العربية.. كتب عن الموسيقار محمد عبدالوهاب أنه كان صديقا قريبا منه, ويحكي عنه أنه كان يبكي كالأطفال وهو يعترف بالذنوب التي اقترفها في حياته, وما تلقاه من قصاص عادل عليها, ويقول: ان عبدالوهاب كان بداخله انسان مؤمن متدين. وكانت الملكة السابقة فريدة من أصدقائه ايضا, وكانت تتابع برنامجه التليفزيوني العلم والايمان وتتصل به بعد كل حلقة لتستفسر منه عن بعض ما جاء فيها, وكثيرا ما كانت تسأله عن شرح آيات في القرآن توقفت عندها. وفي فترة الشباب ارتبط بصداقات مع نجوم الصحافة والأدب والسياسة.. احسان عبدالقدوس. وكامل الشناوي.. وأحمد بهاء الدين.. ويوسف السباعي.. ومحمود أمين العالم.
بدأ مصطفي محمود مفكرا وجوديا, ثم صار مفكرا يساريا, واخيرا استقر مفكرا اسلاميا واسع الأفق متسامحا إلي أبعد الحدود, ومحاربا للتعصب بكل صوره, ضاربا المثل بالرسول صلي الله عليه وسلم الذي آمن بكل الكتب وبكل الرسل ولم يفرق بين أحد من رسل الله كما ذكرت الآية الكريمة في أواخر سورة البقرة, ومبديا تقديره للزعيم الهندي غاندي وهو هندوسي, ومع ذلك كان يقرأ في صلواته آيات من القرآن والانجيل والتوراة تعبيرا عن ايمانه بكل عقيدة تقود الانسان إلي الخالق الواحد وإلي حياة الفضيلة.
وفي مرحلة الزهد والتصوف رأي أن الخلوة مع النفس ضرورية للانسان, وأنها طوق النجاة من الحيرة والألم والقلق, ففي لحظة التأمل يمكن أن نري الله بالبصيرة وليس بالبصر, ويكتشف الانسان في داخله عظمة الله قبل أن يبحث عنها في خارجه, ويتعرف علي القوي الهائلة الكامنة فيه والتي لايدركها إلا المخلصون في حياة التأمل, ونري هذه القوي مثلا لدي بعض الهنود الذين يسيرون فوق الجمر الملتهب, أو ينامون فوق المسامير الحادة, أو يقدرون علي ابطاء نبضات القلب, أو يحبسون أنفسهم داخل تابوت لمدة طويلة دون طعام ولا شراب, وهذه القوي هي التي يدرسها العلماء تحت عنوان بارا سيكولوجي, ولو تأمل الانسان ما يجري في داخل كل جزء من أجزاء جسمه, وما يدور في نفسه وعقله, وتأمل ماحوله من معجزات في الانسان والحيوان, والطير وفي الطبيعة والكون والنظام البديع المذهل في كل ذلك, فلن يجد أمامه إلا التسليم لله الذي ليس كمثله شيء.
أما كتاباته في الفكر السياسي فهي تدور حول التحذير المستمر من اطماع الاستعمار الجديد والعولمة والصهيونية العالمية التي تتخذ اشكالا متعددة وتنصب الفخاخ للمثقفين وللنخبة السياسية في العالمين العربي والاسلامي. ولم يشتبك في معارك صحفية إلا مرة واحدة, لأنه كان يري ألا يضيع وقته في معارك لا( تؤدي إلا إلي الانشغال بما لايفيد), ولذلك كان يلتزم الصمت ولايرد علي من يهاجمه, ولكنه اضطر للدخول في معركة جذبت عددا كبيرا من كبار المثقفين حين نشر مقالا في جريدة الأخبار عام1987 بعنوان: سقوط اليسار هاجم فيه الاشتراكية وعهد عبدالناصر وسياساته في مجانية التعليم التي أدت إلي انشاء مدارس بلا تعليم, وتعيين جميع الخريجين في الحكومة والقطاع العام, فكانت رشوة سياسية من خزانة مفلسة تسببت في انتشار البطالة المقنعة, والنص في الدستور علي نصف المقاعد للعمال والفلاحين في البرلمان والمجالس الشعبية المنتخبة, وهذا أمر لامثيل له حتي في روسيا أو الصين, ورد عليه عبدالرحمن الشرقاوي بمقال عنيف في الاهرام قال فيه انه يرفض الارتزاق باليسار ويرفض أيضا الاتجار بالدين, وأن الذي سقط ليس اليسار ولكن بعض اليساريين المرتزقة, ولكن مصطفي محمود استمر يكتب مقالات ساخنة في الهجوم علي اليسار, والشيوعية, والصهيونية والمنظمات والجمعيات التي تتخذ أسماء مزيفة وتخفي حقيقة أهدافها الشريرة.
وتصف لوتس عبدالكريم في كتابهاعن مصطفي محمود بعد أن تتلمذت علي يديه سنوات طويلة بأنه عاقل جدا, ومجنون جدا, طيب جدا, وقاس جدا. عاطفي أحيانا, ومتحكم في مشاعره أكثر الأحيان يبدو متحررا وهو وفي الحقيقة متحفظ جدا ـ هادئ وثائر ـ واضح وغامض ـ عميق وذكي ويبدو أحيانا غير ذلك. ودائما يحفظ المسافة بينه وبين أقرب الناس إليه, وهو ـ في النهاية انسان ليس من السهل أن يفهمه أحد.
أليس غريبا أن مفكرا وكاتبا كبيرا مثل مصطفي محمود وينجح البعض في اسدال الستار علي فكره وتاريخه وهو صاحب98 كتابا وآلاف المقالات والبرامج التليفزيونية وكان يوما ملء السمع والبصر, أم هو الجحود؟