أيـــــام كـامــل الشناوى
كان كامل الشناوى نجما متالقا فى سماء الصحافة والسياسة والفن، وكان أكبر ظرفاء عصره ولذلك كان كبار السياسيين وزعماء الأحزاب يحرصون على حضور سهراته.
ولد فى ديسمبر 1910 وتوفى فى نفس الشهر عام 1965 وعمره لم يتجاوز 55 عاما. وكانت وفاته فى النهار مع أنه عاش حياته يخشى أن يموت فى الليل وحده،فلم يكن متزوجا، ويعيش وحده فى شقته الفاخرة، ولذلك كان يبحث كل ليلة عن صديق يقضى معه الليل بطوله ساهرا إلى أن يظهر النهار فيطمئن ويذهب لينام.كان كالفراشة يتنقل من مكان إلى مكان وتتخاطفه الصحف.. فقد تخرج فى الأزهر، وبدأ عمله فى الصحافة مصححا بجريدة كوكب الشرق عام 1930، ثم محررا فى جريدة الوادى التى أصدرها طه حسين، وفى سنة 1935 انتقل للعمل فى الأهرام سكرتيرا للتحرير وكان يكتب مقالات قصيرة تحت عنوان «خواطر حرة» ولمع اسمه فى الأهرام فأصبح رئيسا لتحرير مجلة «آخر ساعة» فى سنة 1943، ثم رئيسا لتحرير «أخبار اليوم» سنة 1945، وفى سنة 1949 أصبح رئيسا لتحرير الجريدة المسائية، وبعد سنة أى فى 1950 عاد إلى الأهرام ليعمل رئيسا لقسم الأخبار، ثم عاد إلى دار أخبار اليوم رئيسا لتحرير جريدة الأخبار سنة 1952، ثم رئيسا لتحرير جريدة الجمهورية سنة 1956، وأخيرا عاد رئيسا لتحرير الأخبار سنة 1962 وكانت هذه هى محطته الأخيرة.
شهد له الجميع بأنه كان من ألمع الصحفيين الكبار، له خبطات صحفية كانت تهز الوسط السياسى بسبب علاقاته وصداقاته مع رؤساء الوزارات و الوزراء، ولكنه لم يكن على علاقة طيبة مع القصر خاصة فى سنة 1950 بسبب المؤامرة التى كان يحيكها رجال الحاشية الملكية بإيعاز من الملك فاروق وذلك بإعداد مشروع قانون يحظر نشر أخبار الملك والقصر ويفرض عقوبة السجن على من يخالف ذلك . وكان الملك يريد أن يخفى أخبار الفضائح والمبازل التى يرتكبها فى رحلاته فى الخارج وسهراته مع الغوانى والساقطات وعلى موائد القمار فى أوروبا، ويريد أن يفرض التعتيم على أخباره السياسية وتحالفه مع الاحتلال البريطانى ومؤامراته على حكومات الأغلبية، وتصدى كامل الشناوى لهذا القانون وظل يكتب مقالات نارية معارضا تكميم أفواه الصحافة والصحفيين، ولم يخضع لتهديدات وتلميحات القصر، وعرض عليه القصر منحه رتبة البكوية ليصبح «كامل بك الشناوى» ويرتفع بها إلى طبقة البكوات والبشوات، مقابل أن يصمت ويتوقف عن الهجوم على مشروع القانون خاصة أن أصداء مقالاته جعلت عددا كبيرا من أعضاء مجلس النواب يتحفزون لرفض هذا القانون، ورفض كامل الشناوى هذه الرشوة وفضل أن يظل فارسا مدافعا عن حرية الصحافة والصحفيين.. ونجحت حملته فى إجهاض القانون.
أول حديث مع عبد الناصر
عندما قامت الثورة 1952 كان قائدها الظاهر هو اللواء محمد نجيب، ولم يكن جمال عبد الناصر ظاهرا كقائد حقيقى ومحرك للأحداث خلف اللواء نجيب، ولكن عين كامل الشناوى وفراسته - وربما معلوماته - جعلته يلتقط جمال عبد الناصر مبكرا جدا من بين كل أعضاء مجلس الثورة ويجرى معه أول حديث صحفى قدمه فيه على أنه «قائد الثورة» ولم يكن يطلق عليها لفظ «ثورة» وكانت تسمى «حركة الجيش» أو «الحركة المباركة» لكن كامل الشناوى أدرك قبل غيره أنها «ثورة» وليست «حركة» أو «انقلابا».
وكل من عرف كامل الشناوى قالوا إنه أستاذ وصاحب قلب كبير، التقط عددا كبيرا من الشبان وتولى رعايتهم وتوجيههم حين رأى فيهم موهبة صحفية حقيقية، إلى أن صاروا من الأسماء اللامعة فى الصحافة المصرية وظلت تربطهم به صداقة فيها العرفان والوفاء.. فى زمن كان فيه الوفاء والاعتراف بالجميل من الأمور الشائعة.. وهكذا كان كامل الشناوى من أبرز نجوم المجتمع المصرى فى النصف الأول من القرن العشرين، كما كان «شيخ طريقة» له تلاميذ ومريدين تعلموا منه الصحافة والسياسة وأخذوا عنه الظرف وخفة الدم والقدرة على تأليف القفشات والنكت الذكية.
لم يكن صحفيا كبيرا فقط، ولكنه كان شاعرا كبيرا وكاتب قصة وحتى أحاديثه الصحفية كانت تتميز بلغتها الأدبية الرقيقة، ولكنه كان مثل شعراء الجاهلية يحفظ أشعاره ولا يكتبها ولم يترك من أشعاره المكتوبة إلا ديوان «لا تكذبى» وثلاثة كتب فى التاريخ والانطباعات والذكريات مع أن إنتاجه يكفى لعشرات الكتب ذات القيمة الكبيرة خاصة أنه صاحب أسلوب خاص متميز.. أنيق.. ورشيق.. ولكنه كان مشغولا بسهراته مع كبار الصحفيين والسياسيين والفنانين، ويشدهم إليه بأفكاره الذكية، وأشعاره الرقيقة، وسخرياته اللاذعة..
من أشعاره غنى كبار المطربين: أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش، ونجاة..
سئل: ما هى هوايتك فأجاب: السهر!
اختاره أمير الشعراء أحمد شوقى لإلقاء أشعاره لأسلوبه الخاص فى إلقاء الشعر وقدرته على الإحساس بالمعنى ونقله إلى المستمعين. قال الناقد الكبير رجاء النقاش إن كامل الشناوى كتب قصيدة لا تكذبى التى لحنها عبد الوهاب وغنتها نجاة وعبد الحليم وعبد الوهاب أيضا.. كتبها فى بيت مصطفى أمين فى الزمالك بينما كانت دموعه تنساب من عينيه لأن كلماتها كانت تعبيرا عن لحظة حقيقية عاشها اكتشف فيها أن التى أحبها كانت تحب غيره وتخفى عنه ذلك.
روميو الصحافة المصرية
كان بعض أصدقائه يطلقون عليه «روميو الصحافة» لأنه كان يعيش فى حالة حب دائمة، ويذوب حبا وشوقا ويتعذب فى حبه، ويبدو أن حساسية الشاعر فيه جعلته يستعذب عذاب الحب.. يقول: إن قلبى يرفض أن يكون بلا عمل - أى بلا حب - ومع ذلك لم يتزوج أبدا على عكس «كازانوفا الصحافة» محمد التابعى الذى لم يترك زهرة من زهرات المجتمع وله معها قصة حب وآخرها قصته مع أسمهان وله عنها كتاب تحدث فيه عن الجوانب المجهولة من شخصيتها.. التابعى عاش كالنحلة يتنقل من زهرة إلى زهرة ويزهو بأنه لن يقع فى فخ الزواج ولكنه فى النهاية وقع فى الفخ وتزوج ولم يستطع أن يفلت من عش الزوجية أبدا.. أما كامل الشناوى فكان كما قال عنه مصطفى أمين مثل سينما مترو كل أسبوع فيلم! وقال هو عن نفسه أنا أعيش يوماً بيوم مثل البقال الذى يفتح دفتر اليومية فى الصبح ويقفل حساباته آخر الليل، وأنا لا أملك رصيدا فى أى بنك، ولا بوليصة تأمين، والرجل الوحيد الذى سيشرب المقلب بعد وفاتى هو صاحب البيت الذى أسكن فيه.
ارتدى فى بداية شبابه الزى الأزهرى (الجبة والقفطان والعمامة) ثم تحول إلى ارتداء البدلة.. خفة دمه جعلته نجم كل سهرة.. كان يقول النكتة فتصبح على كل لسان كما كتب عنه مصطفى أمين واعتبره من ظرفاء مصر مثل حافظ إبراهيم والشيخ عبد العزيز البشرى وفكرى أباظة وسليمان نجيب.. وكان يتردد - فى بداياته - على منزل السيدة روز اليوسف ليعطى ابنتها (آمال) درسا فى اللغة العربية، وبعد الدرس يدخل غرفة الصالون فينقلب درس اللغة العربية إلى هرج ومرج وضحك وسخرية، وهو يجيد تقليد أصوات الزعماء والوزراء وكبار الصحفيين حتى أنه كان يحدَّث العقاد فى التليفون مقلدا صوت طه حسين وطريقته وينتقد كتابا أو مقالة للعقاد، ويحدَّث طه حسين فيقلد العقاد وينتقد كتابات عميد الأدب العربى، وتشتعل الخصومة بين الاثنين ويتبادلان الهجوم فى مقالات ساخنة.. ويضحك كامل الشناوى.. ولا يضحك طه حسين طبعا ولا العقاد..
هذه سطور من ملف نجم المجتمع والشاعر والأديب وأستاذ الصحافة، وفى الملف صفحات كثيرة تدعونا إلى إحياء ذكراه فى زمن نحتاج فيه إلى إحياء الذاكرة الوطنية.