ولماذا لا نعود إلي الشيخ شلتوت؟

 لماذا يضيق المسلمون علي أنفسهم وقد وسع الله عليهم في الدين والدنيا؟ لماذا ـ مثلا ـ يحبس معظم المسلمين أنفسهم في إطار المذاهب الأربعة الكبري‏(‏ الحنفي‏,‏ والشافعي‏,‏ والمالكي‏,‏ الحنبلي‏)‏ مع أن هناك مذاهب أخري يعرفها ـ ويعمل بها ـ غيرهم في بلاد شمال إفريقيا‏,‏ وباب الاجتهاد مفتوح يسمح بظهور مذاهب وقواعد جديدة للاجتهاد يمكنها من أن تواجه قضايا هذا العصر‏.‏


دلني أحد العلماء الثقاة إلي كتاب الأحاديث الضعيفة والموضوعة في أمهات الكتب الفقهية للفقيه المعاصر محمد ناصر الدين الألباني‏,‏ وفيه احصاء للأحاديث النبوية التي اكتشف الباحثون أنها موضوعة بينما استشهد بها علماء الفقه والشريعة واستنبطوا منها قواعد شرعية‏,‏ وهذه الأحاديث تزيد علي خمسة آلاف حديث‏.‏ ومعروف أن هناك آلاف الأحاديث الضعيفة والمكذوبة والإسرائيليات‏,‏ قام رواة الحديث الكبار مثل البخاري ومسلم بتنقية الأحاديث التي جمعها الرواة واستبعدوا ما اكتشفوا ـ بالمنهج العلمي المعروف لذلك ببحث مدي اتفاق أو اختلاف الحديث مع القرآن‏,‏ ثم بتتبع سيرة سلسلة رواة الحديث لاكتشاف إن كان كل واحد منهم عاصر لمن أخذ عنه وما كان معروفا عنه من صلاح وتقوي وقوة ذاكرة وشهرة بالدقة ورواية الحديث بنصه كما هو دون زيادة أو نقصان‏.‏


وبهذا المنهج استبعد الرواة الكبار عشرة أمثال ما قبلوه وعلي الرغم من ذلك دخلت أحاديث موضوعة استعان بها أصحاب هذه المذاهب في فتاويهم‏,‏ ولاتزال هذه الأحاديث موجودة إلي اليوم ومن الأساتذة المعروفين من يدافع عنها ويعتبر كل ما جاء في كتاب البخاري أو مسلم صحيحا لا يجوز إعادة فحصه وفي ذلك مصادرة للبحث العلمي ولحق العلماء الثقاة في ممارسة النقد علي أسس منهجية وموضوعية‏,‏ وهذا ما دعا إليه الألباني بقوله‏:‏ الواجب علي أهل العلم ـ لاسيما الذين ينشرون فتاويهم وفقههم علي الناس ألا يتجرأوا علي الأحاديث إلا بعد التأكد من ثبوتها‏,‏ مادامت كتب الفقه والأحاديث التي يرجعون إليها فيها أحاديث واهية وأحاديث لا أصل لها‏.‏


المشكلة أن أهل الفقه والفتوي أجازوا الاستشهاد بالحديث الضعيف إذا كان يتعلق بالأخلاق ويدعو إلي الفضيلة وإلي ما يتفق مع دعوة الإسلام من سلوكيات‏,‏ ولكن هذه الإباحة ـ في مجال واحد ـ فتحت الباب أمام التساهل في قبول الأحاديث مادامت واردة في كتب الكبار مثل البخاري ومسلم وغيرها‏,‏ ومنسوبة إلي الرواة المعروفين مثل أبي هريرة وأمثاله دون أن يعيدوا فحص سلسلة الرواة فقد يجدون واحدا أو أكثر ممن نقل عنهم هذا الحديث أو ذاك متهم بالكذب أو بالنسيان‏.‏


هذه هي مشكلتنا‏..‏ أكثر الفتاوي الغريبة التي لا تتفق مع العقل أو تتعارض مع العلم هي فتاوي مرتجلة وغير مدروسة وتعتمد علي أحاديث ضعيفة أو مكذوبة‏,‏ وبعض هذه الأحاديث أصبحت موضع تسليم نتيجة لكثرة ترديدها وشيوعها‏,‏ حتي أصبح من يجد أسبابا للشك فيها أو لإثبات كذبها لا يستطيع أن يجهر بذلك خشية الهجوم عليه من أساتذة آخرين وقد يجد نفسه في موضع اتهام بالخروج علي ماهو معلوم من الدين بالضرورة وهو اتهام جاهز يسهل علي البعض توجيهه إلي كل من يخالفه ولا يساير ماهو سائد دون تفكير أو مراجعة‏.‏


بعض الذين يتصدون للفتوي عندما لا يجدون الرد في الكتاب أو في الحديث الصحيح يلجأون إلي الحديث الضعيف ـ بدلا من أن يلجأوا إلي أهل العلم والاختصاص في المسألة التي يتصدون لها‏,‏ وفي زماننا لا نجد من أهل الفتوي من يقول لا أعلم مع أنه قيل منذ قديم الزمان إن من قال لا أعلم فقد أفتي‏.‏


ولا يراعي بعض الذين يستسهلون الفتوي أن بعض الأحاديث جاءت في ظروف معينة أو لمرحلة معينة وليست للتشريع الدائم‏,‏ ودون مراعاة للفارق بين ما كان يقوله الرسول كمبلغ عن الله وبين ما كان يقوله من آراء شخصية كبشر في شئون الدنيا وقد نبه الرسول إلي ذلك بقوله‏:‏ إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمور دينكم فخذوا به‏,‏ وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر‏,‏ وهذا الحديث متفق عليه‏.‏ يقول الإمام الأكبر الراحل الشيخ محمود شلتوت في كتابه فقه القرآن والسنة إن الأحاديث ثلاثة أقسام‏.‏ قسم يتعلق بالحاجات البشرية من الآكل والشرب والمشي والتزاور والمصالحة بين شخصين والمساواة في البيع‏,‏ وقسم ثان يتعلق بالعادات الشخصية والاجتماعية ومنها ما يتعلق بالزراعة والطب واللبس‏,‏ وقسم ثالث يتعلق بتنظيم الجيوش والخطط الحربية وأنواع السلام‏,‏ وكل ما نقل من أحاديث تتعلق بهذه الأنواع الثلاثة ليس شرعا يتعلق به طلب الفعل أو تركه‏,‏ وإنما هو من شئون البشر التي لا يمثل مسلك الرسول فيها تشريعا ولا مصدرا للتشريع‏.‏


هذا ما نبه إليه إمامنا الراحل الشيخ شلتوت وهو من هو علما وورعا وحرصا علي نقاء الدين مما أصابه من شوائب‏..‏ فلماذا لا نعود إليه؟


.



جميع الحقوق محفوظة للمؤلف