إشكاليات التجديد في الفكر الإسلامي

لماذا لم تتبلور حتي الآن اتجاهات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث؟

كالعادة اختلف العلماء والمفكرون الذين جاءوا من بلاد عربية وإسلامية لبحث هذه القضية في مكتبة الإسكندرية علي مدي ثلاثة أيام‏,‏ فريق رأي أن التجديد تعوقه مشكلات عديدة أولاها تبني الدولة للفكر التقليدي وعدم تشجيعها وظل الأمر كذلك منذ محاولات التجديد في حكم المماليك في مصر وفي حكم الطبقة العسكرية في الدولة العثمانية بعد ذلك‏,‏ ثم في ظل الاحتلال الفرنسي لمصر بعد حملة نابليون‏,‏ ثم في فترة حكم محمد علي واستمر الحال كذلك الي اليوم‏,‏ والمفكرون الإسلاميون ظلوا علي امتداد العصور يشغلون أنفسهم بالقضايا والمعارك والخلافات التي نشأت في القرون الأولي وأضيف إليها ما استجد من التحولات الاجتماعية والصراعات السياسية الداخلية والمواجهات مع الغزو الأجنبي‏,‏ مما جعل الاتفاق علي توجهات التجديد بالغ الصعوبة في مجتمعات لم يصل أبناؤها من العامة أو الصفوة الي الحد الأدني من التوافق أو التجانس الفكري وتعاني من فجوة واسعة بين الصفوة المتعلمة والقادرة علي متابعة التطورات الحضارية والثقافية الحديثة وبين القاعدة الغارقة في الأمية والجهل بما يجري في العالم‏,‏ وتقاوم كل جديد لمجرد أنه جديد يعتبر بدعة‏!..‏ فالصفوة تقدمية في معظمها والي حد ما‏,‏ والقاعدة محافظة ولديها استعداد بحكم تكوينها الثقافي المتخلف للتجاوب مع دعوات التشدد بأكثر مما تتجاوب مع دعوات التجديد والإصلاح‏..‏ والملايين في العالم الإسلامي لاتزال أسيرة السحر والكرامات والمعجزات وخوارق العادات‏..‏ ولا تؤمن بمبدأ السببية والربط العقلاني والمنطقي بين المقدمات والنتائج‏.‏

ومن ناحية أخري‏,‏ فإن بعض الدول الإسلامية أخذت من الحضارة الغربية جانبها المادي واكتفي أبناؤها باستيراد واستخدام الأجهزة التكنولوجية الحديثة‏,‏ ولكنها لم تأخذ من الغرب مناهج ونتائج العلوم الحديثة بالقدر الذي يجعلها تضيف إليها ولو القليل‏,‏ بل إن الدعاة والمثقفين من تيار الجمود والتخلف استطاعوا تشويه أسس التقدم العلمي والعقلي والسياسي في الغرب‏.‏

أما التيار الذي يدعو الي العدالة والحرية والتقدم وتحديث التعليم‏,‏ وتحديث الدولة كمقدمة لازمة لتجديد الفكر الديني‏,‏ فإنه يبدو غريبا مع تحول قطاع كبير من المثقفين الي موظفي أنظمة سياسية‏..‏ وأمام هذه الحالة طرحت في لقاء مكتبة الاسكندرية الدعوة الي إعداد مشروع اجتهاد جديد يتجاوز القضايا التي شغلت المسلمين بأكثر مما يجب عن التفرغ لبناء أوطانهم والسعي للمشاركة في الحضارة الحديثة كفاعلين ومنتجين وليس فقط كمستهلكين‏,‏ وإنهاء الجدل حول اللحي والنقاب وغير ذلك من الموضوعات الشكلية‏,‏ وتوجيه الاجتهاد نحو القضايا الأساسية وحماية العقيدة الإسلامية من الانحراف‏,‏ مثل قضايا الجهاد‏,‏ وحرية العقيدة‏,‏ وحقوق المرأة‏,‏ وحرية الرأي‏,‏ والاستبداد الديني والسياسي‏..‏الخ‏.‏

يرتبط التجديد في الفكر الإسلامي بالحوار مع الثقافات والحضارات ليس فقط لتوضيح وسطية وتقدمية الإسلام للآخرين‏,‏ ولكن للتعلم من مناهج التفكير الحضاري ومفاتيح التقدم لدي الآخرين‏,‏ وهذا الحوار ضروري للتفاعل مع الحضارات والثقافات الأخري دون الذوبان فيها أو التنازل عن الهوية الإسلامية‏..‏ ويلزم لذلك البدء بعملية مراجعة شاملة للتراث الإسلامي لاستبعاد الفكر الدخيل الذي كان نتاج عصور التخلف والتفكك‏,‏ وهذه مهمة صعبة وتحتاج الي أصحاب العزم والكفاءة والإخلاص للإسلام‏.‏

ولا ينبغي أن نتجاهل حقيقة تعوق عملية تجديد الفكر الإسلامي وهي أن الظروف ليست مواتية‏,‏ فلا تزال المقاومة شديدة من جانب المتشددين لمحاولات فتح باب الاجتهاد والاحتكام الي العقل والمصالحة بين الدين والعلم والحداثة‏,‏ ولإصلاح التعليم وغرس روح التجديد والابتكار‏,‏ ولكن هذه الصعوبات يجب ألا تمنع المخلصين من بذل جهودهم من أجل تجديد الفكر الديني لأن هذه قضية جدية‏,‏ والفكر الإسلامي في أشد الحاجة الي أن نضخ في شرايينه دماء ثقافة جديدة تمكن العقل من أداء دوره في الحياة كاملا‏,‏ وتحرك الطاقات الإيجابية للعمل والانتاج وتغيير الواقع المتخلف وانقاذ الأمة مما يتهددها من تطرف في الفكر والسلوك وتواكل وسلبية في الفكر والعمل والانتاج‏,‏ كما قال المفكر والوزير الدكتور محمود زقزوق‏.‏

ويبقي أن نسأل كيف يمكن أن نبدأ العمل لتجديد الفكر وتجديد حياة وعقول ومجتمعات المسلمين‏..‏ كيف؟ ومن أين نبدأ؟ ومن المسئول عن قيادة هذا التجديد وضبط البوصلة لتحديد التوجهات الصحيحة حتي لا نضل الطريق؟‏..‏ الإجابة أن النخبة في العالم الإسلامي هي التي يجب أن تتحمل النصيب الأكبر وبعدها تأتي في الترتيب المؤسسات الدينية التي استسلمت للأمر الواقع ورضيت بأن تدور في حلقة مفرغة وتعيد انتاج الفكر الذي قدمه الأسلاف منذ عشرات القرون‏.‏

ومسئولية النخبة هي مسئولية دينية ووطنية‏,‏ في مواجهة الاتجاه السائد في الغرب الذي يصور الإسلام علي أنه دين متعصبين من القرون الوسطي يحملون السيوف ويجعلونها شعارا لهم ويستسهلون القتل والموت والتدمير‏,‏ وقد أسهم في دعم هذا الاتجاه اتهام بابا الفاتيكان الحالي للإسلام بالعنف ونشر الإسلام بتهديد السيف‏..‏

ملخص هذا الجدل أن العالم الإسلامي يمر بمرحلة دقيقة مليئة بالاختلافات والتجاذبات‏..‏ تيار يجذب للخلف وتيار يجذب للأمام‏..‏

وفي النهاية فإن انتصار أحد التيارين سيحدد مكانة العالم الإسلامي في القرن الحادي والعشرين‏.‏


.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف