قضية الحكم بالشريعة‏ 2

إذا كانت جماعات الإسلام السياسي قد استطاعت جذب قطاع من الباحثين عن العدل وأصحاب النزعة الرومانسية في فهم الدين‏,‏ وإذا كانت هذه الجماعات تؤسس وجودها علي إثارة هؤلاء ونشر الكراهية والعداء لأنظمة الحكم في بلادهم‏,‏ فإن الهدف الحقيقي لا يخفي علي الأغلبية التي تفهم حقيقة الدين وتقتدي برجال الدين الحقيقيين ولا تنخدع بمعسول القول‏.‏


ويكفي مثالا لما يمكن أن تصير إليه أحوال الشعوب إذا خضعت لحكم هذه الجماعات ما فعلته طالبان منذ استولت علي حكم أفغانستان ولم تطبق من الشريعة شيئا من العدالة والرخاء والحرية ولكنها فعلت العكس‏,‏ وازدادت أفغانستان ـ في ظل هذا الحكم ـ فقرا وتخلفا‏,‏ بالإضافة إلي تحويل أفغانستان إلي سجن كبير بالقمع وكبت الحريات وحرمان المرأة من أبسط حقوق الإنسان‏.‏


وتكررت هذه الممارسات منذ أيام في دولة أخري هي باكستان‏,‏ فقد سيطرت حركة طالبان الباكستانية علي منطقة ماتا وبدأت تنفيذ برنامجها لتطبيق الشريعة فأصدرت أوامرها إلي الرجال بإطلاق اللحي وعدم حلقها أو تهذيبها‏,‏ كما ألزمت الجميع بتغطية الرأس بالعمامة أو الشال الكبير‏,‏ وفرضت العقوبات الصارمة علي كل من يخالف هذه الأوامر‏,‏ وأنذرت بتفجير محال الحلاقين إذا خالفوا الأوامر وقاموا بحلاقة اللحي للزبائن‏.‏


وفي الوقت نفسه‏,‏ تم تفجير مدرستين لأنهما تدرسان العلوم المدنية‏,‏ وذكرت الصحف أن عدد المدارس التي تم تفجيرها خلال الأشهر الأخيرة للسبب نفسه بلغ‏189‏ مدرسة‏..‏ وقد علق علي ذلك مستشار رئيس الوزراء بقوله إن الإرهاب ينتشر في باكستان وفي بقية الدول‏.‏


ليست هذه إلا نموذجا لممارسات الحكم الذي يرفع شعار تطبيق الشريعة‏,‏ ولها أمثال في الماضي والحاضر‏.‏ وعلي الجانب الآخر‏,‏ نجد النموذج المصري الذي يلزم المشرع بنص الدستور بأن تكون مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع‏,‏ ونجد أن سلطات الدولة الثلاث قد التزمت بذلك‏,‏ فبدأت منذ سنوات بإعادة النظر في القوانين القائمة واحدا واحدا‏,‏ وثبت من الدراسة أن معظم هذه القوانين ليس فيها ما يخالف الشريعة‏,‏ وأنها صدرت لتلبية احتياجات المجتمع وتنظيم علاقات ومعاملات الأفراد فيما بينهم وفيما بينهم وبين أجهزة الدولة‏,‏ وهي بذلك تحقق المصلحة للمجتمع ولأفراده‏,‏ وعندما يثبت بدليل قطعي أن في هذه القوانين ما يخالف مبادئ الشريعة من قريب أو بعيد‏,‏ يتم إلغاؤه عن طريق الحكومة ومجلس الشعب والمحكمة الدستورية‏,‏ وهي الحارس للدستور وعلي تطبيق المادة الخاصة بالشريعة‏,‏ وقد حكمت بإلغاء عدد من القوانين وأحكامها نهائية وفورية النفاذ‏.‏


أما القوانين التي تختلف حولها الآراء الفقهية لاعتماد هذه الآراء علي دليل ظني وعلي الاجتهاد‏,‏ فإن الأمر بشأنها يتوقف علي المصلحة كما تقضي بذلك أصول الفقه الإسلامي‏.‏


أما الدعوة إلي الغوغائية التي تطلقها بعض جماعات الإسلام بهدم البناء القانوني كله والادعاء بأنه مستمد من الفقه الفرنسي‏,‏ وإقامة بناء آخر بالكامل‏,‏ فهذه دعوة قائمة علي جهل أو تجاهل‏,‏ لأن الاستفادة من الفقه القانوني في العالم ملتزم بعدم التعارض مع الشريعة‏,‏ وهذا ما حرص المشرعون منذ عشرات السنين علي الالتزام به‏,‏ والبناء القانوني القائم تم استكماله علي مدي عقود وليس من العقل أو الشرع إهدار القوانين القائمة جملة لتحل محلها قوانين أخري لن تختلف عنها‏,‏ بينما تحقق القوانين الحالية المصلحة للبلاد والعباد‏.‏


وإذا كان استخدام شعار تطبيق الشريعة وسيلة سياسية لتملق المشاعر الدينية‏,‏ فإن ذلك لا يجعل العقلاء يغفلون الحقيقة‏,‏ وهي أن قوانين المعاملات المدنية والتجارية والعقوبات الجنائية والأحوال الشخصية ومئات القوانين الأخري التي تنظم علاقات ومعاملات الناس في جميع شئون حياتهم ومماتهم‏,‏ ليس فيها ما يدعو إلي هذا الهدم الكلي الذي يدعون إليه‏,‏ مع ملاحظة أن عمليات المراجعة والتعديل والتصحيح مستمرة لم تتوقف‏.‏


ويعلم العقلاء أن فقهاء وخبراء التشريع يعدون القانون الواحد بعد دراسات ومناقشات وحوارات ومراجعات تستغرق وقتا طويلا‏,‏ وبالتالي فإن مراجعة جميع القوانين لابد أن تستغرق سنوات طويلة وتحتاج إلي جهد كبير من فقهاء الشريعة وفقهاء القانون وعلماء الاقتصاد‏,‏ وخبراء في كل مجال ينظمه قانون‏,‏ ولابد أن يشارك الرأي العام في عملية التشريع لضمان تعبير القانون عن احتياجات المجتمع والاستفادة بملاحظات أهل الرأي وأصحاب الخبرة‏.‏


وقد يجهل أصحاب الإسلام السياسي أن لكل دولة فلسفتها السياسية والاجتماعية التي توجه تشريعاتها‏,‏ وهذه الفلسفة هي التي ترسم الطريق للسياسات الاقتصادية والاجتماعية‏,‏ وهي التي تحدد علاقة الدولة مع مواطنيها ومع الدول الخارجية‏,‏ كما تحكم العلاقات بين المواطنين فيما يتعلق بأمور حياتهم بما يحقق العدالة‏.‏


وكل قانون هو نتاج لظروف موضوعية‏,‏ وكلما تغيرت هذه الظروف تتغير القوانين وتظل ملتزمة بمبادئ الشريعة‏,‏ ولكن إذا قلنا إن هذه القوانين هي الشريعة‏,‏ فإن ذلك يعني أنها قوانين دائمة خالدة‏,‏ وبذلك نحكم علي المجتمع بالتجمد ويتوقف نموه وتطوره‏..‏ وليس هذا كل شيء‏.‏


.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف