حقيقة الإسلام السياسي 9

يدعي أصحاب تيار الإسلام السياسي أنهم قادرون علي إعادة عجلة التاريخ‏,‏ وحكم شعوبهم كما كان يحكم النبي صلي الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون‏,‏ وهم يعلمون أن الحكم باسم الدين والشريعة قد انتهي من العالم منذ القرن السابع عشر‏,‏ ولم تعد هناك دولة واحدة يدعي حكامها أنهم يمثلون ارادة الله علي الأرض‏,‏ والتاريخ يحفظ لنا صفحات سوداء عن الفترات التي تولي فيها السلطة حكام خلطوا بين الدين والسياسة ليخلعوا علي أنفسهم وعلي أعمالهم قداسة ليس لأحد من البشر ادعاؤها‏.‏

وحقيقة أن هناك أحزابا ديمقراطية مسيحية في عديد من الدول في أوروبا وأمريكا اللاتينية‏,‏ والغريب أن هناك تناقضات في سياسات هذه الأحزاب علي الرغم من أنها علي خلفية دين واحد‏,‏ فالاحزاب المسيحية في امريكا اللاتينية ذات توجهات يسارية‏,‏ والاحزاب المسيحية في أوروبا أحزاب يمينية‏,‏ وليس فيها من المسيحية إلا التشدد في قضايا الزواج والطلاق والاجهاض‏..‏ الخ والتأكيد علي التكافل الاجتماعي ومحاربة الفقر‏,‏ وبعض هذه الأحزاب تراجعت وسمحت بالاجهاض وزواج الشواذ‏..‏ الخ باعتبارها من الحريات التي تكفلها حقوق الانسان‏,‏ مما يعني أنها أحزاب سياسية تتغير مواقفها مع تغير اتجاهات الناخبين وليست احزابا دينية تتمسك بثوابت الدين‏,‏ وهي احزاب مسيحية بمعني الحرص علي القيم الاخلاقية والاجتماعية الدينية‏,‏

وبهذا المعني رأي المفكر الاستراتيجي الأمريكي الراحل صمويل هانتنجتون أن علي الولايات المتحدة اعتبار المسيحية البروتستانتية من مقومات الهوية الأمريكية دون أن يفكر في مسألة الحكم الديني والخلط بين الدين والسياسة‏..‏ ومع أن المجتمع الأمريكي يحيا بروح الكنيسة كما وصفه هانتنجتون إلا أن الدستور الأمريكي ينص علي حظر اصدار أي قانون يحدد دين الدولة الرسمي‏,‏ أو يتعارض مع حرية الاعتقاد والممارسات الدينية‏..‏



وفي كتابه الشهير‏..‏ الاسلام وأصول الحكم يقول الشيخ علي عبد الرازق إن نظام الخلافة والقضاء ووظائف الحكم والمراكز في الدولة ليست من الأمور الدينية‏,‏ وإنما هي من الأمور السياسية والدين لم يأمر بها ولا نهي عنها‏,‏ وإنما تركها لنرجع فيها الي احكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة‏,‏ كما ان تدبير الجيوش وعمارة المدن والثغور ونظام الدواوين يرجع الي العقل والتجريب وليس للدين‏.‏

ويكفي أن نري ما تفعله حركة حماس بعد ان تمكنت من استخدام السلاح والميليشيات للاستقلال بحكم قطاع غزة‏,‏ وما فعلته في خصومها من أشقائها الفلسطينيين ورفقائها في المقاومة حين اطلقت عناصرها لقتل المختلفين معها وإلقائهم من اعلي المباني وتشريدهم‏,‏ ومثل هذه التصرفات التي وصلت الي حد قبول تعريض المدنيين للموت وإلقاء المسئولية علي حكومة عباس مرة وعلي مصر في كل مرة‏,‏ وكأن علي الجميع ان يخضعوا لها وينفذوا أوامرها ولو كان في ذلك اضرار بمستقبل الشعوب وأمنها ومصالحها الحيوية‏.‏

وقد تم في فترات من التاريخ استخدام الدين في السياسة في الإسلام او المسيحية‏,‏ وتم ارتباط الحكم الديني ـ في الاسلام والمسيحية ـ بالتسلط والاستبداد وكبت الحريات ولا صوت يعلو علي صوت الحكومة التي تدعي أنها تطبق الشريعة وتمثل ارادة الله‏,‏ والتنكيل بمن يختلف معها علي أنه عدو لله وكافر‏..‏ وفي اوروبا أدي الحكم الديني الي قيام محاكم التفتيش بالحكم علي المخالفين للحكومات بإعدامهم بالسيف او بإحراقهم بالنار‏,‏ ونشر الحكم الديني في اوروبا جوا من الرعب والفساد الاخلاقي حتي كان الابن يشهد بالإدانة علي أبيه‏,‏ والعكس‏,‏ وتفنن الحكم الديني في ابتكار اساليب بشعة للتعذيب‏,‏ يذكر المؤرخون منها تعليق المخالف او إلقاءه من مكان عال ليسقط ميتاـ كما فعلت ميليشيات حماس مع المختلفين معهاـ او الكي بالنار‏,‏

أو بربط المختلف معهم بالحبال علي رافعة تتحرك في اتجاهات مختلفة فتمزق جسده وهو حي‏,‏ والتاريخ يذكر كيف تم احراق جان دارك ـ داعية الحرية ـ وعلي رأسها غطاء مكتوب عليه مرتدة عاصية‏..‏ والأمثلة لا حصر لها ـ في الاسلام والمسيحية ـ عن بشاعة استبداد الحكومة الدينية ولا يذكر التاريخ حكومة دينية ديمقراطية حققت العدل والحرية إلا في حالات نادرة جدا تعد علي اصابع اليد الواحدة‏,‏ تؤكد القاعدة ولا تنفيها‏.‏

إن اصحاب تيار الاسلام السياسي بارعون في الحديث عن ضرورة الحكم بما أنزل الله‏,‏ والادعاء بأنهم هم ـ وحدهم ـ القادرون علي ذلك‏,‏ والمهيأون للحكم الذي يملأ الأرض عدلا ونورا‏,‏ ولا يمكن الحكم علي الأقوال ولكن حقيقة هذا التيار تظهر عندما يصل الي الحكم من خلال الانتخابات او بالانقلابات‏,‏ وما حدث في الحالات التي وصل فيها هذا التيار الي الحكم كان انقلابا علي كل الادعاءات التي كان يرددها وهو خارج السلطة‏..‏ والشواهد تدين هذا التيار ـ عندما وصل الي الحكم في بعض البلاد الإسلامية ـ فقد اتبع الانتهازية في العمل السياسي مثلهم مثل غيرهم من الاحزاب الانتهازية‏,‏ فهذا التيار يرفع شعارات دينية متشددة وهو خارج الحكم لاحراج الحكومات وكسب النقاط السياسية وعندما يصل الي الحكم ينقلب الي النقيض ويتنكر لهذه الشعارات ويتشدد في كبح الحريات وفي زيادة التزمت وإغلاق العقول واعتبار مواقفهم السياسية مواقف دينية تفرضها العقيدة‏,‏ ويفرضون علي مجتمعاتهم أجندة جامدة في السياسات الداخلية والقضايا الاجتماعية‏,‏

وهذا ما جعل الغرب يشعر بالتهديد من الإسلام بعد ان اختلطت الأمور وقدم هذا التيار المتشدد نفسه علي أنه الممثل الحقيقي والشرعي والوحيد للاسلام‏,‏ وادعي ـ في الداخل ـ ان محاربة الحكومات للجماعات المارقة التي تمارس الارهاب باسم الاسلام بأن هذه الحرب ضد الاسلام وليست ضد الارهاب‏..‏ والادعاءات لاتنتهي من انصار هذا التيار بأن المسلمين الحقيقيين يتم عزلهم وملاحقتهم‏,‏ وان الحكومات تنفذ أوامر الولايات المتحدة بملاحقة الاسلاميين‏.‏ وإنهم يستخدمون الاسلام اداة للكسب في صراعهم مع حكوماتهم الحالية ولكسب تأييد قطاعات يسهل التغرير بها من العوام ومحدودي الثقافة الدينية والسياسية‏.‏

ويدعي اصحاب تيار الإسلام السياسي انهم يعملون علي تعميق الاحساس بالهوية المميزة للشعوب الاسلامية وتقوية التماسك الاجتماعي في بلادهم‏,‏ والتصدي للغزو الثقافي الغربي‏,‏ واسلمة الحياة والسلوك في المأكل والزي والعمارة والشعائر والشكليات حتي في مناطق إفريقيا وشرق آسيا التي لم تكن بها هذه العادات من قبل واصبحت شائعة فيها باعتبارها تعبيرا عن الاصالة والهوية الإسلامية‏,‏ والحقيقة ان هذه كلها وسائل لجذب العامة ليس أكثر‏,‏ لأن الاسلام في جوهره‏,‏ ليس في الشكليات ولكن في المبادئ الخالدة التي خلدها الله سبحانه وتعالي في كتابه العزيز‏.‏


.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف