حقيقة الإسلام السياسي‏8

تبدو ظاهرة الإسلام السياسي أكبر من حجمها لسببين أولهما اعتمادها علي لغة خطاب ديني أقرب الي العامة وأكثر تأثيرا من لغة الخطاب الديني الرسمي‏,‏ وأصحابها هم الأقرب الي العامة في الأزمات من الأجهزة الرسمية‏,‏ والسبب الثاني أنه لا توجد أيديولوجية أخري في الساحة‏,‏ كما أن الأحزاب غير مؤثرة في الشارع‏.‏

وقد نضيف سببا ثالثا هو انعزال وسلبية المثقفين وعدم قدرتهم علي نشر ثقافة تدعو الي الحداثة واللحاق بالحضارة العالمية‏,‏ وهذا ماجعل تيار الإسلام السياسي ينجح في تشويه مفهوم الليبرالية بل ومفهوم الديمقراطية والادعاء بأنهما أساليب استعمارية غربية للسيطرة علي العالم الإسلامي‏..‏ وحتي اليوم لم تظهر حركة اصلاحية للفكر الإسلامي علي نحو مافعله الافغاني ومحمد عبده وعلي عبدالرازق‏.‏

وهناك دعوة تجد صداها لدي البعض تقول إن الاستعمار الغربي قام بتهميش الفكر والمؤسسات الاسلامية‏,‏ وان قيادات مابعد الاستقلال جاءت بنماذج غربية للحكم السلطوي‏,‏ فلم يبق أمام الشعوب إلا أن تجرب الحكم الاسلامي‏.‏

ومثل هذه الدعوة تتجاهل البديل الآخر وهو اصلاح وتحديث نظم الحكم القائمة لكي تلبي مصالح الشعوب وتستجيب لطبيعة العصر وتتوافق مع مستجداته‏,‏ وتحافظ علي المبادئ والثوابت الدينية في نفس الوقت‏..‏ والحقيقة أن الحكومات تساعد علي انتشار تيار الاسلام السياسي وتتصدي له في نفس الوقت‏,‏ فهي تستخدم في خطابها السياسي مفردات ومفاهيم دينية في خطابها‏,‏ وتبدو وكأنها في سباق وتنافس مع هذا التيار في التمسك بحرفية النصوص وبالسكوت علي المبالغة في التشدد والتعصب من جانب هذا التيار‏,‏ بل وتظهر في أحيان كثيرة وكأنها تتهرب من المواجهة معه بفكر ومنطق وثقة من يملك الصواب‏,‏ وتعطي لهذا التيار الفرص لتحقيق نقط انتصار بانتهازيته أو استغلاله للاخطاء وللفساد والانحرافات هنا وهناك‏,‏ أضف الي ذلك ان تيار الاسلام السياسي يدغدغ مشاعر المحرومين بالاحلام والعدل والاستقامة والحرية‏,‏ يسرف في تقديم الوعود البراقة عن مجتمع مثالي يقوده الملائكة الأطهار الأبرار من قادة هذا التيار علي الرغم مما هو ماثل من حولنا اليوم من فشل هذا التيار في كثير من الحالات التي تولي فيها الحكم‏,‏ وأقرب مثال علي ذلك حكم حماس في غزة فإن الذين يقبضون علي السلطة هناك أثبتوا في مواقفهم أنهم ليسوا ملائكة أبرارا ولكنهم سياسيون غاية جهدهم الاحتفاظ بالسلطة والاسراف في ذلك الي حد حرمان المسلمين من أداء فريضة الحج بسبب التنازع علي السلطة‏,‏ وكذلك فإن الحركة الاسلامية في ماليزيا حين تمكنت من السيطرة علي الحكم في ولايتين من الولايات العشر للبلاد لم تحقق من الانجازات الا الجلد والرجم وتقطيع الأيدي والأرجل وكأن ذلك هو كل ماتنادي به الشريعة الاسلامية في حكم البلاد والعباد‏..‏ وبقية فصائل الاسلام السياسي في العالم الاسلامي ليس لديها إلا أجندة غامضة وشعارات ووعود براقة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب‏,‏ فإذا وصلت الي الحكم فليس لديها إلا السيف والقطع والسوط والحكم بالكفر والخروج من الملة‏.‏

ومما ساعد التيار السياسي علي التغلغل أيضا تمسك نظم الحكم ومبالغتها في الحرص علي الاستقرار الي حد الجمود‏,‏ ورفض التغيير والتطوير مما أدي الي انخفاض مستويات المعيشة بجوانبها الاقتصادية والسياسية والثقافية‏,‏ وتزايد الجمود العقلي والاتجاه الي الفكر التقليدي‏,‏ وبدلا من أن تسير المجتمعات الاسلامية نحو مزيد من الانفتاح الفكري والثقافي والحضاري فإنها تتجه علي العكس نحو مزيد من الانغلاق بحجة الحفاظ علي الهوية من الانسحاق أمام الغزو الاستعماري الغربي‏..‏ وهذا ماجعل بعض الشباب يظن أن بن لادن هو نسخة حديثة من جيفارا‏..‏ وما جعل العراقيين معجبين بالذين يفجرون أبناء العراق بالمئات في الأسواق والمقاهي والمطاعم تعبيرا عن رفضهم للاحتلال الأجنبي‏,‏ بدلا من أن يقصروا نشاطهم علي المحتلين‏,‏ وهكذا فإن أعمال العنف العشوائية التي يقوم بها اسلاميون هنا وهناك تخطئ الهدف وتصيب الأشقاء أكثر مما تصيب الاعداء‏!‏

وفي المجتمعات الاسلامية مشكلات عديدة معقدة تحتاج الي فكر مبدع وحشد للقوي الشعبية للاصلاح واعادة البناء‏,‏ ولا يمكن أن يتحقق ذلك في مناخ يسوده التوتر‏,‏ وتبادل الاتهامات‏,‏ واستباحة الدماء‏,‏ ومحاولات القفز الي السلطة بالانتهازية أو بالعنف‏..‏ وقد جرت محاولات عديدة للوصول مع تيار الاسلام السياسي عند نقطة وسط تجمع بين التمسك بأصول وثوابت الدين والتمسك في نفس الوقت بالقيم السياسية المعاصرة‏,‏ ولكن هذه المحاولات كانت تنتهي دائما بالفشل أو بالخداع‏.‏

كل هذا والأغلبية في العالم الاسلامي صامتة‏,‏ وحشد هذه الأغلبية في الاتجاه الصحيح أو في الاتجاه الخطأ هو المعركة القادمة‏.‏


 


.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف