منذ منتصف القرن العشرين, وحتي اليوم وتيار الاسلام السياسي ينشط بصورة ملحوظة في أوساط المحبطين والمهمشين من الشباب والفقراء في كل بلاد العالم العربي والاسلامي, ويسعي إلي إثارة السخط الشعبي باستغلال الأزمات الاقتصادية, والغلاء, وصعوبة الحصول علي مسكن, وتضخم مشكلة العنوسة نتيجة للحرمان الاقتصادي, وباستغلال الخلل الاجتماعي باتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وهدفه من ذلك الهيمنة علي المجال السياسي والثقافي تمهيدا لتحقيق الهدف النهائي وهو الانفراد بالحكم.
ويفسر بعض الباحثين أسباب نمو تيار الاسلام السياسي بأن هذا التيار ينمو في مناخ غير ديمقراطي لايسمح بظهور معارضة معقولة, ويضيق الخناق علي حركات الاحتجاج السلمي, ويواجه الرأي الآخر بأساليب القمع العنيفة.
أما جماعات الاسلام السياسي فإنها تكرر القول بأنها لاتريد إلا الاصلاح, وأنها الوحيدة التي لديها الحل لكل المشاكل وهي وحدها القادرة بمنهجها علي القضاء علي الفساد, والانحراف وتحقيق العدل والحرية والرخاء.. إلخ وهي التي ستقضي علي غياب العدالة الاجتماعية, وعلي تحسين الخدمات المتدهورة, وعلي تحرير جميع الأراضي الاسلامية من الاحتلال.
وأمامنا أكثر من نموذج لنظم الحكم التي سيطرت عليها هذه الجماعات, وكانت برامجها وأساليبها في الحكم موضع الاختبار, ولم تنجح في تحقيق وعودها, بل فعلت العكس, وعادت بالمجتمعات التي تحكمها إلي الوراء.. إلي مزيد من التخلف والاستبداد والفقر والفساد.. وهذا ما فعلته طالبان في أفغانستان بعد أن سيطرت علي حكم البلاد, ونصب الملا محمد عباس أخوند نفسه أميرا للمؤمنين, ثم أصبح الملا محمد عمر أميرا للمؤمنين من بعده, وتم بناء هيكل السلطة علي أساس أحقية دارسي الشريعة في تولي المناصب الكبري في الدولة لأنهم الأقدر علي تطبيق السياسة الشرعية وإنزال حكم الله علي أكمل وجه. وقد سجل الاستاذ فهمي هويدي ما رآه في أفغانستان في ظل حكم طالبان, في سلسلة تحقيقات فذكر ان صورة الحكم في أذهان هؤلاء الحكام هي صورة الحكم في العصر الاسلامي الأول ورفض كل صور الحكم والممارسات السياسية الحديثة حتي أن اختيارهم الولاة عندهم لم يكن له أساس إلا معرفتهم بأمور الحلال والحرام وليس بناء علي تخصصاتهم وخبراتهم, ورفضوا المبدأ القائل بأن اختيار المسئولين في أي دولة يجب ان يكون علي أساس القدرة والكفاءة وليس علي أساس الثقة والورع فقط..
ولم يتفهموا كيف أن اكثر الناس ورعا لم يحتلوا موقعا في السلطة في عهد الاسلام الأول, والمثال علي ذلك أن أبا ذر الغفاري لم يشغل موقعا في الحكم برغم صلاحه وتقواه وكونه أحد المبشرين بالجنة وكان ذلك لعدم قدرته علي النهوض بتلك المسئولية.. وعندما هاجر الرسول لم يقع اختياره علي دليل تتوافر فيه شروط الاسلام والورع ليقوده في الرحلة ولكنه استعان بواحد من المشركين, لأنه كان الأكثر خبرة بالطريق, ففي أمور الحياة والسياسة يجب أن تكون الكفاءة والخبرة أهم من الثقة والورع وحدهما.
وقد تولي رجال طالبان جميع المواقع السياسية والادارية في البلاد, فكان جميع الوزراء ومديري الادارات في كل وزارة وكل مسئول في البلاد, من أهل الثقة والدارسين في الشريعة ويحمل لقب( الملا) أو( مولوي) وهذا النظام السياسي أقرب إلي مبدأ ولاية الفقيه المطبق في إيران, والسبب الحقيقي لذلك ليس سببا من الشرع والدين ولكنه الحرص علي ضمان الاستمرار في احتكار السلطة, ولايزال الملا محمد عمر هو أمير المؤمنين منذ عام1994 دون اعتراف بمبدأ تداول السلطة, علي الرغم من أنه لم يكمل تعليمه الديني.
وكان يحكم أفغانستان ومعه21 وزيرا ومجلس الشوري مكون من الوزراء وعشرة أشخاص آخرين منهم قاضي القضاة, ورئيس الافتاء المركزي, أي أنه لايوجد فصل بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية, والسلطة القضائية, والشوري ليست ملزمة للحاكم وفقا لمفهوم الاسلام السياسي, ولأمير المؤمنين وحده سلطة اصدار القوانين والقرارات دون الرجوع إلي مجلس الوزراء أو مجلس الشوري أو أية جهة أخري, وأهم الوزارات في حكم طالبان كانت وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتختص بمراقبة الالتزام بالسلوك الاسلامي في البلاد, ومجلس الافتاء الذي يحدد موقف الشريعة في كل موضوع من الموضوعات السياسية والاقتصادية والدينية.. وأعضاء مجلس الافتاء يعتمدون علي الأحاديث اكثر من اعتمادهم علي مصادر التشريع الأخري من القرآن والاجماع والاستحسان.. إلخ.. ومستوي تعليم الفقهاء و علماء الدين في جماعة طالبان لايكفي لتكوين العالم أو الفقيه كما لم يكن لدي نظام حكم طالبان دستور كما في الدولة الحديثة منذ القرن التاسع عشر, ولكن كانت البلاد تدار بحسب ما يراه أمير المؤمنين ومعاونوه ورجال الفتوي.
وفي ظل حكم.. أمير المؤمنين أغلقت مدارس البنات وأصبح تعليم البنات محرما, وفرض علي الرجال اطلاق اللحية بحيث لايقل طولها عن طويل قبضة اليد, ومن يضبط بلحية مخالفة يحكم عليه بالسجن إلي أن تطول لحيته إلي الحد الشرعي ولم يجد نظام أمير المؤمنين حرجا في التوسع في زراعة الأفيون لتمويل الحركة.
وتجارب التاريخ تدل علي أن الاسلام السياسي كان دائما غطاء, وتوظيفا للعقيدة والشريعة الدينية للسيطرة علي العقول ثم الوصول إلي الحكم بوسائل ديمقراطية أو انقلابية, ثم التنكر للديمقراطية بعد ذلك.
.