حتي الآن لا توجد نظرية متكاملة للإسلام السياسي, وكل ما نراه ليس إلا شعارات ونداءات وأحاديث عاطفية عن تطبيق الشريعة والحكم بالإسلام, والالتزام بما أمر به الله, دون تقديم فكر واضح أو مبادئ محددة, أو برنامج, أو فلسفة سياسية للأساس الذي تقوم عليه هذه الدعوة إلي الإسلام السياسي.
وأمامنا أنظمة في بعض الدول الإسلامية لجأت إلي الدين لكي تكتسب الشرعية من مصدر إلهي فيحرم علي شعوبها الاختلاف مع سياساتها وقراراتها, وهي سياسات وقرارات, كما تدعي, صادرة عن سلطة لها قداسة, وتعبر عن الشريعة. هذه الأنظمة نشرت أكثر أنواع التدين تشددا, وفرضت علي شعوبها الحصار في دائرة الفكر المغلقة, وعبادة النصوص, وتدعي أن الاختلاف مع سياساتها خروج علي طاعة الله الذي أمر المسلمين بأن يطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منهم.
وإلي جانب هذا النموذج الخلط عن عمد بين الدين والسياسة لضمان السيطرة علي الشعوب وقطع رقاب المختلفين مع حكوماتهم في قضايا سياسية واجتماعية, واعتبارهم خارجين علي حكم الله, هناك ظاهرة أخري في الساحة الإسلامية, بعد فشل مشروع الوحدة القومية, ازداد ظهور الدعوة إلي الإسلام السياسي كمشروح بديل, وانتقل خطاب الإسلام السياسي من الدعوة في المساجد إلي الإعلام والأحزاب والجماعات المغلقة, وتم استغلال الفوضي التي تصاحب معارك الانتخابات لاختلاق معارك يبدو فيها الإسلام وأنصاره مضطهدين من النظم القائمة.
وقد بالغ الإعلام الغربي في تصوير جماعات الإسلام السياسي علي أنها المعبرة عن الإسلام, وأنها الأكثر شعبية في العالم الإسلامي, ويهدف هذا التضخيم إلي تحويل الإسلام السياسي والجماعات الداعية إليه إلي فزاعة تجعل أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية مضطرة إلي طلب الحماية من الغرب, في الوقت الذي يحتضن الغرب جماعات الإسلام السياسي بحيث لم تظهر جماعة منها إلا علي يد مخابرات الغرب وأمواله وأسلحته وحمايته السياسية. فالدول الكبري تمارس لعبة مزدوجة بحماية جماعات الإسلام السياسي, والادعاء بأنها البديل القادم, وحماية أنظمة الحكم التي تواجه نشاط هذه الجماعات وسعيها إلي السيطرة علي عقول العامة, تمهيدا للقفز علي السلطة في غفلة من النظم القائمة, واعتمادا علي الدعم الخارجي.
والإسلام السياسي, كما يقول المفكر الإسلامي سليم العوا, ليس نظرية متماسكة, لكنه مجرد دعوة وحلم وشعار يخاطب المشاعر الدينية لدي المسلمين جميعا دون تفرقة, ولكن الإعلام الغربي يتحدث عن هذا الإسلام السياسي وكأنه وحدة واحدة, وأيديولوجية حقيقية, ويتجاهل أن الإسلام السياسي تحول علي يد كثيرين إلي وسيلة لتحقيق مكاسب اقتصادية أو سياسية.
ومشكلة العالم الإسلامي ازدادت بظهور الحركات والجماعات التي عملت بوعي, أو بدون وعي, علي الانحراف بالإسلام, وانتهي بعضها إلي ما كان الدكتور عبدالعزيز كامل, القيادي السابق في جماعة الإخوان, يسميه الانتحار الجماعي, وكان هذا المفكر الراحل يري أن الأنظمة في العالم الإسلامي تتعامل مع هذه الحركات والجماعات دون دراسة كافية, وبعمق لأسباب ظهورها, وكيف وصل الأمر إلي العداوة المتبادلة معها, وكيف يمكن فتح حوار حقيقي, وليس حوارا لمدة ساعة من أجل التسجيل التليفزيوني, وأن تشترك في هذا الحوار المؤسسات الدينية مع المؤسسات الثقافية التي ابتعدت عن مهمتها في صفوف الشعب لبناء ثقافة وطنية تعكس السماحة والاعتدال, وترفض التطرف, وتتحمس للبناء والتجديد, وتتفهم وتتعامل مع طبيعة العصر, وانشغلت بالمناصب والمهرجانات والأضواء.
والنتيجة, كما نري, انتشار ثقافة التخلف والتطرف والجمود والرفض لكل صورة من صور الحياة السياسية والاقتصادية, والمعاملات الحديثة التي تفرض نفسها علي حضارة القرن الحادي والعشرين.
وفي الوقت نفسه تفتح الحكومة الأبواب والمنابر لأصحاب الفكر الرجعي, وللحالمين باستعادة الفردوس المفقود الذي كان منذ أربعة عشر قرنا, ولدعاة التكفير ودعاة الكراهية والخرافة واللامعقول, وللذين يرفضون إدراك الواقع الدولي, ويدعون إلي إحياء الخلافة الإسلامية وكأنها الصورة الوحيدة للتعبير عن وحدة المسلمين, ولا تجد مثل هذه الفرصة الأصوات المعتدلة الداعية إلي صور أخري للوحدة تبدأ بالتعاون, وتتطور إلي التكامل, وتأجيل حلم الوحدة السياسية إلي أن تتوافر الظروف لتحقيقها.
ومع أن الخلافة انتهت إلي الانحراف بعيدا عن الدين, ونخر فيها الفساد, وأدي ذلك إلي تشويه صورة الإسلام والإساءة إليه, فلا بأس من أن تكون أملا يراود البعض كما يراود آخرين الأمل في حكومة عالمية واحدة تحكم العالم, أو لغة عالمية واحدة يتحدث بها جميع شعوب العالم, وهي أحلام جميلة تناسب الشعراء, وليس هناك احتمال لتحقيقها في المدي المنظور.