حقيقة الإسلام السياسي‏4

حتي الآن لا توجد نظرية متكاملة للإسلام السياسي‏,‏ وكل ما نراه ليس إلا شعارات ونداءات وأحاديث عاطفية عن تطبيق الشريعة والحكم بالإسلام‏,‏ والالتزام بما أمر به الله‏,‏ دون تقديم فكر واضح أو مبادئ محددة‏,‏ أو برنامج‏,‏ أو فلسفة سياسية للأساس الذي تقوم عليه هذه الدعوة إلي الإسلام السياسي‏.‏


وأمامنا أنظمة في بعض الدول الإسلامية لجأت إلي الدين لكي تكتسب الشرعية من مصدر إلهي فيحرم علي شعوبها الاختلاف مع سياساتها وقراراتها‏,‏ وهي سياسات وقرارات‏,‏ كما تدعي‏,‏ صادرة عن سلطة لها قداسة‏,‏ وتعبر عن الشريعة‏.‏ هذه الأنظمة نشرت أكثر أنواع التدين تشددا‏,‏ وفرضت علي شعوبها الحصار في دائرة الفكر المغلقة‏,‏ وعبادة النصوص‏,‏ وتدعي أن الاختلاف مع سياساتها خروج علي طاعة الله الذي أمر المسلمين بأن يطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منهم‏.‏


وإلي جانب هذا النموذج الخلط عن عمد بين الدين والسياسة لضمان السيطرة علي الشعوب وقطع رقاب المختلفين مع حكوماتهم في قضايا سياسية واجتماعية‏,‏ واعتبارهم خارجين علي حكم الله‏,‏ هناك ظاهرة أخري في الساحة الإسلامية‏,‏ بعد فشل مشروع الوحدة القومية‏,‏ ازداد ظهور الدعوة إلي الإسلام السياسي كمشروح بديل‏,‏ وانتقل خطاب الإسلام السياسي من الدعوة في المساجد إلي الإعلام والأحزاب والجماعات المغلقة‏,‏ وتم استغلال الفوضي التي تصاحب معارك الانتخابات لاختلاق معارك يبدو فيها الإسلام وأنصاره مضطهدين من النظم القائمة‏.‏


وقد بالغ الإعلام الغربي في تصوير جماعات الإسلام السياسي علي أنها المعبرة عن الإسلام‏,‏ وأنها الأكثر شعبية في العالم الإسلامي‏,‏ ويهدف هذا التضخيم إلي تحويل الإسلام السياسي والجماعات الداعية إليه إلي فزاعة تجعل أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية مضطرة إلي طلب الحماية من الغرب‏,‏ في الوقت الذي يحتضن الغرب جماعات الإسلام السياسي بحيث لم تظهر جماعة منها إلا علي يد مخابرات الغرب وأمواله وأسلحته وحمايته السياسية‏.‏ فالدول الكبري تمارس لعبة مزدوجة بحماية جماعات الإسلام السياسي‏,‏ والادعاء بأنها البديل القادم‏,‏ وحماية أنظمة الحكم التي تواجه نشاط هذه الجماعات وسعيها إلي السيطرة علي عقول العامة‏,‏ تمهيدا للقفز علي السلطة في غفلة من النظم القائمة‏,‏ واعتمادا علي الدعم الخارجي‏.‏


والإسلام السياسي‏,‏ كما يقول المفكر الإسلامي سليم العوا‏,‏ ليس نظرية متماسكة‏,‏ لكنه مجرد دعوة وحلم وشعار يخاطب المشاعر الدينية لدي المسلمين جميعا دون تفرقة‏,‏ ولكن الإعلام الغربي يتحدث عن هذا الإسلام السياسي وكأنه وحدة واحدة‏,‏ وأيديولوجية حقيقية‏,‏ ويتجاهل أن الإسلام السياسي تحول علي يد كثيرين إلي وسيلة لتحقيق مكاسب اقتصادية أو سياسية‏.‏


ومشكلة العالم الإسلامي ازدادت بظهور الحركات والجماعات التي عملت بوعي‏,‏ أو بدون وعي‏,‏ علي الانحراف بالإسلام‏,‏ وانتهي بعضها إلي ما كان الدكتور عبدالعزيز كامل‏,‏ القيادي السابق في جماعة الإخوان‏,‏ يسميه الانتحار الجماعي‏,‏ وكان هذا المفكر الراحل يري أن الأنظمة في العالم الإسلامي تتعامل مع هذه الحركات والجماعات دون دراسة كافية‏,‏ وبعمق لأسباب ظهورها‏,‏ وكيف وصل الأمر إلي العداوة المتبادلة معها‏,‏ وكيف يمكن فتح حوار حقيقي‏,‏ وليس حوارا لمدة ساعة من أجل التسجيل التليفزيوني‏,‏ وأن تشترك في هذا الحوار المؤسسات الدينية مع المؤسسات الثقافية التي ابتعدت عن مهمتها في صفوف الشعب لبناء ثقافة وطنية تعكس السماحة والاعتدال‏,‏ وترفض التطرف‏,‏ وتتحمس للبناء والتجديد‏,‏ وتتفهم وتتعامل مع طبيعة العصر‏,‏ وانشغلت بالمناصب والمهرجانات والأضواء‏.‏


والنتيجة‏,‏ كما نري‏,‏ انتشار ثقافة التخلف والتطرف والجمود والرفض لكل صورة من صور الحياة السياسية والاقتصادية‏,‏ والمعاملات الحديثة التي تفرض نفسها علي حضارة القرن الحادي والعشرين‏.‏


وفي الوقت نفسه تفتح الحكومة الأبواب والمنابر لأصحاب الفكر الرجعي‏,‏ وللحالمين باستعادة الفردوس المفقود الذي كان منذ أربعة عشر قرنا‏,‏ ولدعاة التكفير ودعاة الكراهية والخرافة واللامعقول‏,‏ وللذين يرفضون إدراك الواقع الدولي‏,‏ ويدعون إلي إحياء الخلافة الإسلامية وكأنها الصورة الوحيدة للتعبير عن وحدة المسلمين‏,‏ ولا تجد مثل هذه الفرصة الأصوات المعتدلة الداعية إلي صور أخري للوحدة تبدأ بالتعاون‏,‏ وتتطور إلي التكامل‏,‏ وتأجيل حلم الوحدة السياسية إلي أن تتوافر الظروف لتحقيقها‏.‏


ومع أن الخلافة انتهت إلي الانحراف بعيدا عن الدين‏,‏ ونخر فيها الفساد‏,‏ وأدي ذلك إلي تشويه صورة الإسلام والإساءة إليه‏,‏ فلا بأس من أن تكون أملا يراود البعض كما يراود آخرين الأمل في حكومة عالمية واحدة تحكم العالم‏,‏ أو لغة عالمية واحدة يتحدث بها جميع شعوب العالم‏,‏ وهي أحلام جميلة تناسب الشعراء‏,‏ وليس هناك احتمال لتحقيقها في المدي المنظور‏.





جميع الحقوق محفوظة للمؤلف