كان الخلط بين الدين والسياسة البداية لتخلف المسلمين.. وبدأ الخلط بالمغالطة التي ادعت أن النبي صلي الله عليه وسلم كان حاكما لدولة أسسها في المدينة, بينما كان النبي يؤسس للدعوة ويبلغ رسالة ربه, ويرفض المحاولات المتكررة لمعاملته علي أنه ملك أو رئيس لدولة, ولم يكن أتباعه يتعاملون معه علي أنه ملك ولكن علي أنه كما حدد القرآن نبيا رسولا, ولم يكن أتباعه مرءوسين أو محكومين ولكنهم كانوا الصحابة أصحاب محمد.
ولهذا فإن النموذج لنظام الحكم في عهد النبوة نموذج مفتوح, كما يقول المفكر المغربي الدكتور محمد عابدالجابري: هو نموذج مفتوح يقبل صياغات مختلفة وفقا للمبدأ الذي أرساه النبي: أنتم أدري بشئون دنياكم ووفقا للضوابط التي جاءت في القرآن والتي تسد الباب أمام كل صور التسلط والاستبداد. ولم يكن هناك نص في القرآن والسنة يحدد نظام الحكم, مما يعني أن النظام السياسي في الإسلام متروك للمسلمين لكي يتوافق مع تطور الحياة ونمو الوعي وبما يحقق المصلحة.
والخلفاء الراشدون الثلاثة( أبوبكر وعمر وعثمان) أيضا حكموا في نظام سياسي مفتوح, ولذلك ظهرت الفتنة الكبري, نتيجة الخلاف ـ أو الصراع ـ السياسي علي السلطة, وتطورت إلي صدام وقتال أدي في النهاية إلي تحول الخلافة إلي ملك عضوض.. وسادت روح القبيلة بسيطرة بني هاشم في الدولة الأموية, وسيطرة بني العباس في الدولة العباسية, كما تحول الحكم من تحمل الأمانة لخدمة المسلمين إلي غنيمة, ومع أن الحاكم له سلطات الملوك ويعامل علي أنه ملك, ويتوارث العرش أبناؤه وأحفاده فإنه كان يسمي نفسه الخليفة, أي أنه خليفة رسول الله, ومع أنه ليس مبعوثا من الله لمهمة دينية لأنه ليس بعد الرسول رسول وليس لمن يخلفه صفة دينية لأنه لا يتلقي الوحي, ولا يحق له الادعاء بأن له الحق في احتكار حقيقة الشرع ومعرفة مراد الله والحكم باسمه سبحانه وتعالي.
.. فلا يمكن اعتبار قتل الخليفة عثمان مسألة دينية لأنه مسألة سياسية في قناع ديني لا يجعل التمسك بها تمسكا بالعقيدة والخروج عليها نوعا من العصيان أو الكفر. ويري الدكتور الجابري أن أحداث الفتنة التي استمرت ست سنوات وانتهت بقتل عثمان إنما كانت تعبيرا عن فراغ دستوري في نظام الحكم بعد وفاة النبي, وأن هذا الفراغ الدستوري هو الذي يسمح بظهور جماعات تدعي أن فكرها السياسي وأهدافها ومصالحها وأطماعها السياسية هي التعبير عن الشريعة, مع أن الشريعة الإسلامية لم تقرر نظاما للحكم أو طريقة واحدة لاختيار الحاكم, ولذلك تم اختيار كل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية بطرق مختلفة كل الاختلاف
ومما يؤكد أن نظام الحكم في الإسلام هو نظام مدني أن عمر بن الخطاب رفض أن يناديه الناس بلقب خليفة رسول الله واستحسن لقب أمير المؤمنين لأنه يعبر عن حقيقة وظيفته المدنية كقائد أعلي لجيش المسلمين ومسئول عن كفالة الأمن والحياة الكريمة للرعية من المسلمين وغير المسلمين.. ولكن الدولة الأموية هي التي عملت علي الخلط بين ماهو ديني وماهو دنيوي, وبين روح القبيلة والسعي إلي الغنيمة واعتبار نظام حكمهم عقيدة ومخالفتهم مخالفة لحكم الله وإرادته.
ونتيجة لعدم وجود نظام للحكم في الإسلام أصبح الوصول إلي الحكم عن طريق السيف فانتزع معاوية السلطة بالقوة وفرض نفسه خليفة, وقال إن اختياره تم بإرادة الله وبقضاء الله وقدره, وبذلك جعل مشروعية الحكم مشروعية إلهية, وسار العباسيون علي هذا النهج فصارت إرادة الخليفة من إرادة الله, مما فتح الباب للنظم السلطانية الاستبدادية الموروثة من حضارات الشرق القديم الفرعونية والبابلية والفارسية, وأصبحت مقولاتهم تمثل الجانب العقلي في الفكر السياسي في الإسلام, وتطور هذا الفكر السياسي بتغير الحكام وظل الشيء الوحيد الباقي هو فرض إرادة الحاكم واعتبار إرادته هي إرادة الله, والادعاء بأن فكره ورغباته هي التطبيق للشريعة, وتوارث الذين حكموا باسم الإسلام والشريعة أسلوب استخدام القوة لقمع كل من يخالف آراءهم, وأصبح السياف إلي جانب الخليفة أو السلطان مستعدا دائما لقطع الرقاب علي الفور بمجرد كلمة منه وظهر مبدأ اخترعه بعض الفقهاء يقول: من اشتدت وطأته وجبت طاعته.
وفي العصر الحديث لايزال البعض يسعي إلي إحياء هذه المفاهيم والممارسات للإسلام السياسي.
ولهذا تخلف النظام السياسي وتخلف بناء الدولة الحديثة في العالم الإسلامي.
.