لماذا تخلف المسلمون 18

في آخر لقاء لي مع أستاذي الدكتور زكي نجيب محمود في بيته بالجيزة‏,‏ حدثني طويلا عن ضرورة إيقاظ العقل العربي في مواجهة سيطرة الخرافة وربط الأشياء بغير أسبابها‏,‏ وأفاض يومها في شرح دور الإمام محمد عبده في بيان أن التفكير العقلي هو الأصل الأول من أصول الإسلام‏,‏ واذا تعارض العقل مع ظاهر الشرع أخذنا بما دل عليه العقل وتأويل الظاهر بما يتفق مع العقل‏.‏


وضرب الدكتور زكي نجيب محمود مثالا للتفكير العقلي عند الإمام محمد عبده وتفسيره للحسد‏,‏ كما جاء في القرآن‏,‏ بقوله إن الشر الذي يصيب الإنسان من الحسد ليس من نظرة الحاسد‏,‏ لأن النظرة وحدها ليس لها تأثير أو فعل ولا تحرك ذرة من مكانها فكيف تصيب أحدا في ماله أو عياله أو صحته؟ وبالعقل ندرك أن الحسد هو ما يقوم به الحاسد في الخفاء من وشاية أو تآمر أو تشويه أو تعطيل مصلحة أو غير ذلك من الأعمال التي تسئ وتسبب الضرر الي من يحسده علي ما هو فيه‏..‏ أما انتشار الإيمان بقوة السحر والحسد فهما دخيلان علي عقيدة الإسلام والدليل علي ذلك أن الإمام علي بن أبي طالب عندما استعد للخروج لمقاتلة الخوارج جاءه أحد المنجمين يدعي القدرة علي معرفة الغيب‏,‏ ونصحه بألا يسير الي القتال في تلك الساعة وأن يجعل سيره بعد ثلاث ساعات من بدء النهار‏,‏ وقال له إنك لو سرت هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك ضرر شديد‏,‏ فما كان من الإمام علي إلا أن عنف المنجم وخالف نبوءته وانتصر‏,‏ وقال لأصحابه‏:‏ لو سرنا في الساعة التي حددها هذا المنجم وانتصرنا سيقول الناس إن النصر تحقق بفضل المنجم ونبوءته‏,‏ وما كان لمحمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ منجم ولا لنا بعده وفتح الله علينا بلاد كسري‏.‏


وفي هذا اللقاء الذي مازلت أذكر كل كلمة قالها مفكرنا الكبير‏,‏ أهداني كتابين من كتبه أعتز بهما وأتمني أن يقرأهما كل عربي وكل مسلم هما مجتمع جديد أو الكارثة وتجديد الفكر العربي‏,‏ وفيهما تحليل لأسباب تخلف العالم العربي والأسباب نفسها تنطبق علي العالم الإسلامي دون استثناء‏,‏ فالمسلمون ـ والعرب ـ يعيشون علي مستويين‏,‏ فالقول عندهم في ناحية والفعل في ناحية أخري‏,‏ وهذا ميراث من الأسلاف يظهر أيضا في التناقض الذي نشاهده في أشخاص درسوا فرعا من فروع العلم ولكنهم مع ذلك يؤمنون بالخوارق والكرامات والمعجزات التي لا يمكن قبولها إلا بإلغاء العقل وتعطيل القوانين العلمية‏,‏ حتي بين أهل العلم والفكر والثقافة نجد من يأكلون كما يأكل الغربيون ويرون أن الحضارة واحدة لا تتجزأ إما أن نقبلها من أصحابها في أوروبا وأمريكا ونصبح جزءا من الحضارة العالمية وإما أن نرفض هذه الحضارة المعاصرة ونعيش في كهف الماضي‏,‏ كما كان يعيش أسلافنا دون أن نصل حتي اليوم الي أسلوب للحياة والتفكير والعمل يجمع العناصر الايجابية من التراث الاسلامي مع عناصر التقدم في العصر الحديث‏,‏ لم نصل الي حل للمعادلة التي تجعل المسلم مسلما ومعاصرا في الوقت نفسه‏.‏


لم يقم العالم الإسلامي بمراجعة شاملة لميراث القرون الماضية ولايزال يضفي القداسة علي كل قديم مع ما في التراث من أفكار وتفسيرات وأقوال بعضها غير صحيح وبعضها دخيل علي الاسلام من ثقافات وثنية‏,‏ وبعضها من نتاج زمن لم تكن حقائق العلوم قد تم اكتشافها‏,‏ لم تتم عملية المراجعة لتحديد ما يستحق الاحتفاظ به والحرص عليه وما لم يعد صالحا للعصر من القيم والأفكار القديمة‏,‏ وما نأخذه وما نتركه من الحضارة الحديثة‏,‏ والمشكلة أن هناك من يري استحالة التوصل الي صيغة حضارية تجمع بين القيم والمبادئ الإسلامية وقيم وفكر وحياة الحضارة الحديثة‏,‏ هؤلاء لم يدركوا الي اليوم أن من التراث ما أصبح غير صالح لزماننا وأن مكانه الطبيعي أن يوضع علي رف الماضي الذي لا ينشغل به إلا المؤرخون‏.‏


وليس هناك طريق يخلصنا من التخلف إلا بترك منهج التفكير الذي كان يتبعه القدماء منذ قرون مضت وننتقل الي المنهج العلمي في التفكير الذي يبحث من جديد عن أسرار الطبيعة ويعتمد علي ما يراه بالعين ويدركه بالحواس‏,‏ وما يكتشفه في الطبيعة والواقع وليس اعتمادا علي ما توصل إليه الأقدمون في زمانهم وبوسائلهم العلمية القاصرة والمحدودة بالقياس الي العصر الحديث‏.‏


وباختصار فإن التراث ليس كله صحيحا وليس كله خاطئا‏,‏ ولكن فيه عناصر قوة وعناصر ضعف تعوق التقدم وتمثل قيودا علي العقل والارادة‏,‏ ولن يتم القضاء علي التخلف إلا بعد تطهير العقل المسلم من الخرافات ومن الفكر الخرافي الذي يتعارض مع العلم‏,‏ لأن إزالة الانقاض مرحلة لابد منها قبل اقامة بناء حضاري جديد‏.


 



جميع الحقوق محفوظة للمؤلف