الخطاب الديني يعلم المسلمين الخوف مما ينتظرهم من العذاب في جهنم, ويدعوهم إلي عدم الاشتغال بشئون الدنيا والتفرغ للاستعداد للآخرة, وترك الدنيا لغيرهم حتي أصبح الايمان عند المسلمين ينبع من الخوف ويؤدي إلي السلبية بدلا من أن يكون دافعا للايجابية والعمل باعتباره عبادة.. هو خطاب يهتم بالطقوس أكثر من الجوهر, ولهذا نري من يؤدي الحج والعمرة مرات عديدة ولا يري أن ذلك يتعارض مع ممارساته بالاستغلال والكذب والجشع والاحتكار وظلم الآخرين,
وكما لاحظ استاذ الطب النفسي الشهير الدكتور أحمد عكاشة فإن الكثيرين ـ وحتي من المثقفين ـ يعتقدون في تأثير الجن والعمل والأحجبة والزار والذكر وهي أمور بعيدة عن مفهوم الدين الصحيح.
ولكن كثيرا من الدعاة وخطباء المساجد يروجون لها, ويشجعون علي اللجوء إلي أضرحة الأولياء للتوسل ولقضاء حاجاتهم, ويروجون لأفكار وفتاوي غريبة قد تكون من نتاج القرون الماضية ولم تعد ملائمة لمتغيرات العصر. وكما يقول الدكتور عكاشة فإن الفهم الخاطيء للدين هو أحد الأسباب الرئيسية للعجز عن الابتكار والسلبية والاتكالية وعدم القدرة علي التحديث والحياة في إطار رجعي. والاستسلام للإرهاب الفكري والابتزاز من ذوي العقول المغلقة..
وقد أتيح لي أن أزور عددا من الدول الإسلامية فلم أجد اختلافا كبيرا بينها في مضمون الخطاب الديني. ومعظمها يروج للجمود والتحريض علي العودة إلي فكر وسلوك وملابس الأجيال الماضية, والعودة إلي الحياة في الماضي باعتباره العصر الذهبي للإسلام والمسلمين مع التركيز علي المرأة والالحاح علي حرمانها من حقوقها كإنسان. وبذلك فان ما يقوم ببنائه المفكرون والقادة الاجتماعيون المؤمنون بالتقدم يهدمه هؤلاء الدعاة والخطباء,
وهذا ما أدي إلي اجهاض حركة الاصلاح الديني التي بدأها الطهطاوي في بدايات القرن التاسع عشر ثم محمد عبده واقبال وغيرهم. والنتيجة أن هذا الخطاب الديني المعادي للتحديث والداعي إلي رفض الاندماج في الحضارة الحديثة بمضمونه الانهزامي ودعواته إلي السلبية ساعد ـ بغير قصد ـ علي تمكين القوي الأجنبية علي فرض سيطرتها علي العالم الإسلامي, بالإضافة إلي دوره في إعداد المناخ المناسب للتطرف والإرهاب.
ونسمع كل يوم من المسئولين عن المؤسسات الدينية وشئون الدعوة كلاما مكررا عن تجديد الخطاب الديني إلا أن ذلك لم يتحقق كما يجب حتي الآن لأن محاولة الاصلاح تتجه إلي الدعاة الذين تم تعليمهم وتكوينهم العقلي والثقافي في معاهد تدرس ما في الكتب القديمة بما فيها من أفكار وتفسيرات تتعارض مع العقل والمنطق ومع حقائق العلوم الحديثة ومع الواقع المتغير, هؤلاء الوعاظ والخطباء والدعاة المتخلفون هم نتاج لنظام تعليم متخلف ومناهج متخلفة لم يتم تطويعه وتحديثه,
ولهم عذرهم حين يرددون ما تعلموه من شيوخهم, ولهذا فإن الإصلاح ليس عند الخطباء والدعاة وهم أهل الفتوي ولكنه يبدأ بتجديد الفكر الديني وبإصلاح حقيقي وجذري للتعليم الديني يشمل المناهج واسلوب التدريس ويشمل ايضا تجديد المعاهد والكليات التي تخرج هؤلاء الدعاة القضية هي هل نستطيع تحديث المؤسسة الدينية؟
والمشكلة أن الأنظمة الحاكمة في بعض البلاد الإسلامية تساند وتؤيد هذا الخطاب الرجعي وتشجع علي ابقاء الجمود في الفكر وتري أن في ذلك ضمانا لاستقرارها في احكام قبضتها علي البلاد والعباد, باعتبار أنها من إرادة الله والاعتراض علي استبدادها هو اعتراض علي ارادة الله ولعلنا نذكر نموذج امام اليمن السابق وسلطان عمان السابق وكلاهما, أقام جدارا ماديا ومعنويا حول شعبه وعزله عن تيار الحياة المعاصرة وحافظ علي ابقاء حالة الجمود والتخلف وحرص علي تغذية الخطاب الديني الداعي الي الاستسلام والقبول بالواقع المتخلف, وهذا ما نجده في بلاد أخري بدرجات مختلفة.
ومع أن الاسلام واحد إلا أن الفوضي في الفكر والخطاب والفتوي وتراجع مكانة المؤسسة الدينية الرسمية وصدور بعض التفسيرات والدعوات والفتاوي الغريبة وظهور قيادات دينية عشوائية وتليفزيونية ثقافتها الدينية انتقائية تكرر ما في التراث من أفكار الفرق المنحرفة والمتطرفة, ومن أقوال المفسرين والفقهاء المتشددين. وقد انتجت هذه الفرق لنفسها خطابا دينيا خاصا بها وفسروا الآيات والأحاديث وأحكام الفقة وفقا لعقيدتهم المتطرفة, وحكموا علي من يخالفهم بأنهم حزب الشيطان,
وبذلك لم يعد الإسلام واحدا بل أصبح هناك إسلام لكل جماعة يختلف عن اسلام الآخرين. وقد حذر القرآن من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون.
دائرة مفرغة: خطاب ديني معظمه متخلف, وفكر ديني أكثره متخلف وتعليم ديني في عمومه متخلف, ونظم حكم متخلفة تدعم كل هذا التخلف, والمسلمون في انتظار أن يغير الله لهم الأحوال, والله لن يغير أحوالهم حتي يغيروا أنفسهم أولا.