لماذا تخلف المسلمون 14

يتحمل رجال الدين والمؤسسات الدينية نصيبا من المسئولية عن تخلف المسلمين سواء بالترويج للأفكار والمعتقدات والفتاوي التي تتعارض مع العقل ومع العلم‏,‏ أو بنشر الأساطير والخرافات التي عزلت العالم الإسلامي عن مجري الحضارة الحديثة‏,‏ وبعدم القيام بالمسئولية عن تحفيز المسلمين للعمل والاجتهاد لتحسين نوعية حياتهم‏,‏ ومقاومة الفساد والاستبداد في كل صوره‏.‏


وعلي الرغم من أن جهود التيار العقلاني الذي بدأ في العصر الحديث بالافغاني ومحمد عبده وتلاميذهما فتح ثغرة في جدار التخلف أطل منها المسلمون علي ما يجري في العالم المتقدم‏,‏ وأحيا الأمل في أن تكون هذه بداية نهضة شاملة للعالم الإسلامي وتحقيقا لنبوءة الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ بأن الله يبعث علي رأس كل مائة سنة من يجدد للمسلمين دينهم‏,‏ فلم يظهر من يجدد الدين في هذا القرن ولذلك سيطر التيار الأصولي والفكر الرجعي واللاعقلاني علي المسلمين‏.‏ مما جعل المفكر الألماني هوفمان يقول‏:‏ إذا لم نحكم علي الإسلام من أعمال وأحوال المسلمين فهل يعني ذلك أن المسلمين شيء والإسلام شيء آخر؟ وهل تريدون أن يتعامل الغرب مع مباديء عظيمة ليس لها تطبيق في الواقع؟ وهل الإسلام دين نظري أم هو دين للتطبيق في سلوك المسلمين ويحكم حياتهم؟


والأصل في الإسلام أنه دين ينظم أحوال المسلم ويحدد سلوكه ومعاملاته ولذلك كان الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ يعلم أصحابه عشر آيات من القرآن فقط إلي أن يطبقوا كل ما فيها فيعلمهم عشر آيات أخري وهكذا‏,‏ وكان الرسول هو القدوة في ذلك حتي قيل إنه ـ صلي الله عليه وسلم ـ كان قرآنا يمشي علي الأرض‏,‏ وقد أرسي مبدأ جوهريا يغفل عنه بعض المسلمين وهو مبدأ التمييز بين أمور الدنيا وأمور الدين‏,‏ في واقعة مشهورة وذات دلالة بالغة الأهمية‏,‏ فقد مر ـ عليه الصلاة والسلام ـ بجماعة يقومون بتلقيح النخل‏,‏ فقال لهم‏:‏ إن ذلك لا ضرورة له‏.‏ واستجابوا له فجاء محصول التمر رديئا‏,‏ فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنتم أدري بشئون دنياكم‏.‏


أنتم أدري بشئون دنياكم‏,‏ هذا هو المبدأ الإسلامي الذي يتغافل عنه بعض رجال الدين ويقحمون أنفسهم في أمور لا علم لهم بها‏,‏ ويصدرون الفتاوي في قضايا من اختصاص علماء في تخصصات معينة‏,‏ وفي قضايا سياسية واقتصادية ليست لديهم دراية كافية بها‏,‏ ولذلك أصدروا الفتاوي بأن الاشتراكية هي النظام الذي جاء به الإسلام حين كان نظام الحكم يرفع شعارات الاشتراكية‏,‏ وأصدروا بعد ذلك فتاوي بأن الرأسمالية والحرية الاقتصادية يمثلان النظام الاقتصادي الإسلامي‏,‏ وحتي المنظمات الماركسية والشيوعية في الخمسينيات وجدت بعض الشيوخ وضعوا نظرية مؤداها أن الإسلام يدعو إلي الشيوعية‏(‏ من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته‏),‏


وهكذا أقحم رجال الدين أنفسهم في مجالات اهتزت معها مكانتهم منها مثلا الفتوي بأن الامتناع عن الإدلاء بالصوت في الانتخابات حرام شرعا يحاسب عليه المسلم يوم القيامة ويحسب في ميزان سيئاته وهكذا‏.‏ مع أن الحكم الذي قرره الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ‏:‏ أنتم أدري بشئون دنياكم حكم واضح وقاطع‏,‏ وفي تفسيره قال أستاذنا الشيخ محمد أبوزهرة ـ أكبر فقهاء العصر‏:‏ قد يكون للنبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ خطأ في غير تقرير المباديء والأحكام الشرعية‏,‏ وهل يتصور أن يكون النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ حجة ذا خبرة في الصناعات والزراعة والتجارة والمهن المختلفة‏,‏ وإن كان ذلك قد خلطوا ولم يميزوا بين رسول جاء بشرع من السماء‏,‏ وصانع ذي خبرة فنية وتاجر عالم بالأسواق اذا كان هذا هو النبي فماذا يقال عمن هم أقل منه بكثير جدا‏.‏؟


هذه هي المشكلة‏:‏ أن رجال الدين أقحموا أنفسهم في شئون دنيانا مخالفين بذلك المبدأ الذي قرره الرسول‏:‏ أنتم أدري بشئون دنياكم‏.‏ وقد حدث ذلك محاولة لاستغلال الدين لممارسة سلطة روحية يمكن أن تتحول إلي تسلط يصادر حرية الفكر ويعوق مسيرة التقدم ويقضي علي الطموح العلمي كما حدث في ظل سلطة الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطي‏,‏ حين كان رجال الدين يحكمون ويتحكمون في أمور الدنيا والدين‏,‏ ويحكمون بالاعدام في محاكم التفتيش علي من يخرج علي سلطتهم وتسببوا في فرض التخلف علي أوروبا لقرون فيما يطلقون عليه اليوم عصور الظلام‏.‏ ندعو الله أن ينجي المسلمين منها‏.‏


 




جميع الحقوق محفوظة للمؤلف