لايمكن إعفاء رجال الدين من المسئولية عن التخلف الذي ساد بلاد المسلمين, إلي جانب العوامل الأخري السياسية والاجتماعية والثقافية فقد انشغلوا وشغلوا الناس بأمور هامشية, العلم بها لا يفيد والجهل بها لا يضر, وأهملوا رسالتهم وهي العمل علي تطوير الأساس الفكري للعقيدة حتي توافق طبيعة التطور ومشكلات العصر, وركزوا جهدهم في محاربة كل جديد ممايعتبر من فتوحات العلم, وسر التقدم الذي حققه الآخرون.
يذكر الجبرتي أن علماء الحملة الفرنسية جمعوا رجال الدين وعرضوا عليهم بعض التجارب العلمية, فانزعج الشيوخ حين رأوا امتزاج بعض المواد ينتج عنها دخان أحمر أو أخضر وقالوا إن ذلك من عمل الشيطان, واستنكروا ما قاله العلماء الفرنسيون عن علوم الكيمياء وغيرها وقالوا: هذه ليست علوما, ما العلم إلا في الكتاب والسنة.. وكانت هذه إشارة البدء لاستمرار المقاومة للتقدم والتنوير. وبعدها كرس علماء الدين جهدهم في مصادرة كتاب, أو منع عرض فيلم أو مسرحية, أو إصدار فتاوي ذات طابع سياسي مثل قولهم إن المشاركة في الانتخابات من الواجبات الشرعية التي يعاقب تاركها بالعذاب في جهنم وبئس المصير, أو مثل الفتوي التي تفرض علي كل سيدة أن تعطي ثديها لكل رجل تتعامل معه لكي يرضع ثلاث( أو خمس) رضعات مشبعات فتكون محرمة عليه ويحل لها الظهور أمامه, أوأن يتفرغ العالم الشرعي للدفاع بقوة عن رواية وجدها في الكتب القديمة بأن خادمة في بيت الرسول شربت من إناء فيه بول علي سبيل الخطأ وهي تحسبه ماء فيصدر حكمه بأن بول الرسول طاهر وكل إفرازاته طاهرة, وكأن هذه القضية يمكن أن تفيد المسلمين في دنياهم وأخراهم!
وفي كتاب دليل المسلم الحزين الكثير مما يستحق اعادة القراءة.
يصف ابن الجوزي ما وصل اليه رجال الدين في عصره فيقول: ومن تلبيس إبليس علي الفقهاء مخالطتهم الأمراء والسلاطين ومداهنتهم وترك الإنكار عليهم, وربما رخصوا لهم فيما لارخصة لهم فيه لينالوا عرضا من دنياهم وهكذا صار التفقه في الدين وسيلة لكسب العيش أكثر منه طريقا يقرب صاحبه إلي الله منذ الدولة الأموية الي ظهور المليونيرات وسكان القصور من دعاة الفضائيات ومقدمي الفتوي بالتليفون مقابل مائة وخمسين قرشا للدقيقة(!) ومرورا بعصر محمد علي الذي يقول عنه الجبرتي إنه راج فيه سوق النفاق بعد أن أمر محمد علي بعزل عمر مكرم ونفيه فأخذ الشيوخ يبالغون في ذم عمر مكرم مع أنه كان ظلا ظليلا عليهم وعلي اهل البلد يدافع عنهم ولم يزالوا بعده في انحطاط. ويصف الجبرتي حال رجال الدين في عصره فيقول:..
وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء الأقدمين واتخذوا الخدم والأعوان, وصار اجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية وحساب الميري والفائض ويواصل الجبرتي: وقد زالت هيبتهم ووقارهم في النفوس.. وهذا الحال ماجعل رجال الدين يتقبلون فكرة غلق باب الاجتهاد والحكم علي العقول بالتوقف عن التفكير والتجديد ومسايرة تطور الحياة.. وهذا الجمود أدي الي مطاردة الفكر واضطهاد أصحاب الرأي وكانت تجلياته في محاكمة طه حسين حين أبدي رأيا في كتابه عن الشعر الجاهلي,
والتضييق علي الدكتور هيكل لأنه كتب سيرة النبي بمنهج عقلي, وعلي توفيق الحكيم لأنه كتب مسرحية محمد ورأوا ان احتكار ساحة الدين لرجال الدين وحدهم, وليس لأصحاب العقول واهل الفكر والثقافة ان يقتربوا منها.. لقد تخلي رجال الدين في ذلك الزمان عن القيادة. لم يجعل رجال الدين دعوتهم الي دراسة حركات الشباب وتطلعاتهم وقيادتهم بدلا من ادانتهم, ولم يكن لهم موقف في مراجعة التكوين العلمي في المدارس والجامعات وتنسيق العلاقة بين البيت والمدرسة وأجهزة الإعلام والثقافة والمؤسسات الدينية, ولم يجعلوا رسالتهم تحفيز المسلمين للسعي الي امتلاك عوامل القوة بالتقدم في العلوم والتكنولوجيا وبالتنميةوالدعوة الي تصحيح المفارقة التي تجعل الدول الاسلامية تستدعي المعونات والاستثمارات الاجنبية للعمل في ارضها, بينما الاستثمارات الاسلامية تسهم في رفع مستوي معيشة هذه الدول الاجنبية, ولم يتحركوا للتنسيق بين المراكز والمؤسسات الاسلامية بدلا من التكرار وبعثرة الجهود كما هو الحال الآن.
ولقد أخطأ بعض رجال الدين علي مر العصور بأن خلطوا بين الدين والسياسة وأقحموا أنفسهم في شئون الحكم, ومنذ العصر العباسي ظهرت طبقة من علماء الدين جعلوا همهم الحصول علي المناصب والثروة بحجة تطبيق الشريعة!
بالقطع كان في كل العصور رجال دين من ذوي المكانة والكرامة أدوا رسالتهم علي الوجه الأكمل. ولكن النقطة السوداء في الثوب الأبيض تعيبه. والإصلاح الديني يبدأ برجال الدين أولا.. فإذا صلح الرعاة تصلح الرعية..