أزمــــــة أم كلثوم
واجهت أم كلثوم فى سنواتها الأخيرة أزمات هددت مكانتها على عرش الغناء، وأثرت على صحتها فى وقت كانت تعانى فيه من المرض والضعف، وكانت قد تجاوز عمرها 66 عاما حين واجهت الأزمة الأخيرة التى جعلتها تنطوى على نفسها وتعيش فى عزلة ولا تستقبل إلا عددا محدودا من أصدقائها المخلصين! بدأت أزمتها - كما يقول مؤرخو كوكب الشرق - بعد وفاة عبد الناصر وبدء عهد جديد أراد أن يكون له رجاله ورموزه ورؤساء تحرير صحفه ونجوم الغناء المنتمين إليه أيضا، وقد ذكر الرئيس السادات فى كتاباته وأحاديثه أنه كان يحب سماع أغانى فيروز وأسمهان أى أن أم كلثوم لم تكن مطربته المفضلة، بينما كان عبدالناصر يحب سماع أم كلثوم، وفى محاولة لإيجاد (البديل) وقع الاختيار على المطربة عفاف راضى لتكون مطربة مصر الأولى، كما كانت أم كلثوم، وشجع على ذلك أن السادات كان يحب الموسيقار بليغ حمدى الذى اكتشف عفاف راضى وكان متحمسا لها.
وقدمت الإذاعة والسينما والتليفزيون كل ما تستطيع لتلميع هذه المطربة الجديدة، وحققت نجاحا ملحوظا، ولكنها لم تملأ مكان أم كلثوم فى القلوب، ولم يصل صوتها إلى العالم العربى مثلها، ثم اكتشفت السيدة جيهان السادات صوتا جديدا بطريق المصادفة حين استمعت فى زيارة إلى مجلس الشعب مع فرح ديبا امبراطورة إيران إلى السيدة إفراج الحصرى بنت الشيخ محمود الحصرى شيخ المقارئ المصرية واحتفالا بالامبراطورة أقيم حفل شاى افتتحته إفراج الحصرى بقراءة آيات من الذكر الحكيم، واكتشفت السيدة جيهان السادات أن إفراج الحصرى تحفظ أغانى أم كلثوم وتغنيها بصوت قوى ونطق سليم للغة العربية. وقالت لها السيدة جيهان السادات: لابد أن تغنى، وتروى السيدة إفراج الحصرى القصة فتقول: فى اليوم التالى أبلغنى أحد ضباط رئاسة الجمهورية أن الرئيس السادات يريد مقابلتى وتمت المقابلة بحضور والدى وقال له الرئيس السادات: إحنا محتاجين موهبة لصوت مصرى، وتحفظ الشيخ على أن تعمل ابنته بالغناء، وذهب إلى شيخ الأزهر فى ذلك الوقت (الشيخ عبد الحليم محمود) وسأله هل الغناء حرام فأجابه بأن الغناء ليس حراما ما لم يكن فيه معصية، ونشرت الأهرام تصريح شيخ الأزهر للشيخ الحصرى. وتم اختيار اسم (ياسمين الخيام) للمطربة الجديدة، وأفردت الصحف والمجلات صفحات تبشر بظهورها، وقرر السادات تخصيص سيارة من الرئاسة لتنقلات إفراج إلى أكاديمية الفنون لدراسة الغناء تحت إشراف الدكتور رشاد رشدى رئيس الأكاديمية. وفى تأكيد مكانة أم كلثوم فى عهد عبدالناصر ينقل لنا حنفى المحلاوى فى كتابه «معارك أم كلثوم» ما كتبه مصطفى أمين أن عبد الناصر حين قرر أن تدخل المرأة مجلس الأمة وأن يعين المرأة وزيرة لأول مرة فإنه فكر فى تعيين أم كلثوم وزيرة للثقافة إلا أنه استقر على تعيين الدكتورة حكمت أبو زيد أول وزيرة فى مصر، وكان السادات على علم بذلك طبعا هو والسيدة جيهان السادات، وكان الإعلام يطلق لقب «سيدة مصر الأولى» على أم كلثوم، بينما كانت السيدة جيهان السادات قد قررت أن تكون هى «سيدة مصر الأولى». فى نفس الوقت كان السادات يشعر بأن أم كلثوم لم تفعل معه ما كانت تفعله لعبد الناصر، لم تغن باسمه ولإنجازاته، فقد غنت باسم جمال لنجاته من حادث المنشية (يا جمال يا مثال الوطنية أجمل أعيادنا الوطنية بنجاتك يوم المنشية)، وفى سنة 1956 بعد تأميم القناة غنت (محلاك يا مصرى وأنت ع الدفة والنصرة عاملة ع القنال زفة) وغنت بعد ذلك أغنية للسد العالى، وأثناء العدوان الثلاثى غنت أغنية رددها الشعب العربى فى كل مكان (والله زمان يا سلاحى) ألفها صلاح جاهين ولحنها كمال الطويل، وروت أم كلثوم أنها سجلتها والطائرات تضرب القاهرة ليلا، والقاهرة غارقة فى الظلام، والمرور ممنوع، فطلبت سيارة من الرئاسة مصرح لها بالمرور استثناء وذهبت بها مع ابن شقيقها المهندس محمد الدسوقى والملحن كمال الطويل، وسجلت النشيد فى استديو مصر، وأصبح هو النشيد الوطنى المصرى الذى يتردد فى المدارس كل صباح وفى الاحتفالات والمناسبات الرسمية، كما أصبح هو النشيد الوطنى لعدد من الدول العربية، وهكذا كانت أم كلثوم هى الصوت العالى والمؤثر شعبيا جعلت الناس تغنى معها للثورة ولعبد الناصر وإنجازاته وانتصاراته وللاشتراكية وللوحدة العربية. وبعد هزيمة 1967 تبرعت بمجوهراتها للمجهود الحربى، وقامت برحلات للغناء فى باريس والعواصم العربية، وجمعت أموالا كثيرة للمجهود الحربى، وساهمت بذلك فى رفع الروح المعنوية للشعوب العربية بعد النكسة.. وتغلبت على أحزانها بعد أن كانت قد قررت اعتزال الفن، ولكنها استعادت حماسها ا لوطنى وتفرغت لاستنهاض الهمة فى الشعوب العربية. وفى هذه الفترة أنشأت مشروع أم كلثوم للأسر المنتجة من المهجرين من مدن القناة التى دمرها العدوان، وكانت تقدم ماكينة خياطة وتشرف على تدريب السيدات والفتيات على الخياطة، وعلى إقامة أسواق لبيع منتجاتهن وساهمت بذلك فى توفير مورد رزق لهذه الأسر.
حلم لم يتحقق
فى عام 1971 قررت أم كلثوم إنشاء مشروع كبير يتكلف عشرات الملايين تساهم فى تمويله وفتحت باب التبرعات للقادرين للمساهمة معها فيه، وكان المشروع يشمل إنشاء مسرح وفندق سياحى ليضمن توفير مورد ثابت للإنفاق على مشروعات الرعاية الاجتماعية للفقراء، وإنشاء دار لإيواء السيدات اللاتى لا مأوى لهن، ودار للأيتام وسجلت لذلك جمعية باسم «دار أم كلثوم للخير» وقامت بشراء قطعة أرض لإقامة المشروع عليها، وساهم معها عدد من السيدات والرجال انتخبوا من بينهم مجلس إدارة للجمعية تحت إشراف وزارة الشئون الاجتماعية، واجتمعت مع أعضاء مجلس إدارة الجمعية، وتم وضع الترتيبات لوضع حجر أساس المشروع، ونشرت الصحف تحقيقات وأخباراً كثيرة عن هذا المشروع. وقالت إنه سيكون أكبر مشروع ثقافى وفنى واجتماعى فى مصر، ومارست الجمعية فى البداية نشاطها بأموال أم كلثوم الشخصية، ولزيادة الموارد حصلت على ترخيص بإصدار (يانصيب) خيرى تخصص حصيلته للمشروع، ولكن حدثت مفاجأة فقد جاء ايراد اليانصيب أقل من قيمة الجوائز فاضطرت أم كلثوم لأن تدفع الفرق من مالها الخاص وكان المبلغ كبيرا جدا بالنسبة لذلك الوقت، أما المفاجأة الثانية فكانت فى الحقيقية لغزاً، إذ توقف الكلام فى الصحافة عن المشروع، واختفى حجر الأساس واختفت الجمعية، وظهرت جمعية أخرى باسم جمعية «النور والأمل» ترأسها السيدة جيهان السادات، وتناقل الناس أن أم كلثوم تتعرض لحرب من حرم الرئيس وأن هذه الحرب بدأت منذ تولية الرئيس السادات، حين ذهبت أم كلثوم لتهنئته بالمنصب وقالت له ببساطة كما تعودت أن تناديه بدون تكليف:(مبروك يا أبو الأنوار) وأظهرت السيدة جيهان السادات الغضب ونبهت أم كلثوم أمام الحاضرين إلى أنه تجب مخاطبة رئيس الدولة بما يليق بمقامه، وقيل إن السيدة جيهان السادات أرادت أن تكون سيدة مصر الأولى والوحيدة، وقيل أيضا إن مشروع السيدة جيهان السادات كان لابد أن يحتل الساحة الاجتماعية وتسلط عليه كل الأضواء، ولا يشاركها فى ذلك أحد، وكل ذلك يؤكده صديقى الراحل محمود عوض، وصديقى المتألق حنفى المحلاوى فى كتابهما عن أم كلثوم ويؤكده أيضا مؤرخون وكتاب كانوا قريبين من الأحداث. وإن كانت السيدة جيهان السادات قد أعلنت أن كل ما قيل لم يكن صحيحا، وآخر ذلك ما قالته فى حديثها مع زميلتنا الصاعدة سهير حلمى فى ملحق الأهرام فى 2 أبريل 2010. سألتها إن أم كلثوم كانت قوية الصوت وقوية الشخصية ووصف صوتها بأن له صفات الزعامة وقيل إن سر الخلاف بينكما يعود إلى نفس السبب وسعيك للزعامة الاجتماعية، فأجابت السيدة جيهان السادات بأن كل ما قيل فى هذا الشأن ليس صحيحا على الاطلاق، وأم كلثوم لم تقل للسادات (يا أبو الأنوار) ولم أغضب كما قيل، وأنا لا أستطيع أن أخفى دهشتى لقدرة البعض على (الفبركة) واختلاق الشائعات وأنا أعلم أن هذه الشائعة تحديدا من «طبيخ» سامى شرف (سكرتير الرئيس عبد الناصر السابق للمعلومات) فهو الذى دبر هذا الأمر وأحكم تدبيره استنادا لمكانة أم كلثوم الفنية وشهرتها وجماهيريتها الطاغية.. وحقيقة الأمر أن أم كلثوم كانت صديقة عزيزة، اعتادت أن تزورنى فى بداية سنوات زواجى فى منزلنا بالروضة حين كان السادات رئيسا للإذاعة، وكنا نقطن فى الدور الخامس ولم يكن بالعمارة مصعد، فكانت تأتى يوما بعد يوم تقريبا، تجلس معى، ونتجاذب الحديث وكانت امرأة ذكية جدا.. فرضت موهبتها واحترامها لذاتها على الجميع.. امرأة عصامية ارتبطت بالنخبة المثقفة وارتفعت بثقافتها وكانت تمتلك من الحصافة وآداب السلوك ما يمنعها من رفع الكلفة بينها وبين الناس، وكنت أحضر بعض حفلاتها، وأحب كل أغانيها، وكثيرا ما كنا نلتقى فى مآدب جماعية فى منزل سيد مرعى بالهرم، فأنا أحبها جدا، وكنت من القلائل الذين يترددون عليها فى مرضها الأخير قبل وفاتها. هذا ما قاله بعض من كتبوا تاريخ حياة أم كلثوم، وهذا ما قالته السيدة جيهان السادات.. والله أعلم.
رحلة النهاية
فى السنوات الأخيرة - بعد أزمة محاولات تصعيد أصوات أخرى لتحل محل صاحبة الصوت المعجزة الذى لم يخلق الله له مثيلا إلى اليوم، وبعد أزمة محاربة مشروع أم كلثوم للخير، بدأت أم كلثوم فى رحلة النهاية.. ضعفت حالتها الصحية والنفسية، وضعف صوتها.. حتى أنها فى إحدى الحفلات لم تستطع أن تؤدى أغنياتها الصعبة، كما كانت تفعل من قبل، وكالعادة بدأ المنافقون يتناقصون من حولها ولم يبق لها إلا عدد محدود من المخلصين حتى وصلت إلى مرض الموت، وفى مستشفى القوات المسلحة بالمعادى تجمع حولها أكبر الأطباء، وكانت هى قوية تصارع المرض حتى النزع الأخير، كانت إرادة الحياة لديها قوية جداً حتى إن الأطباء ظنوا أكثر من مرة أنها ماتت ثم يعود قلبها لينبض من جديد، وحدث أن وزير الإرشاد فى ذلك الوقت الدكتور أحمد كمال أبو المجد، كان قد أعد بيانا مؤثرا ينعى فيه مسيرة الغناء العربى وسجل البيان ليذاع فور إعلان وفاتها، وأذيع البيان فعلا، ولكن قبل الوفاة بيومين. وهكذا شغلت أم كلثوم الناس من بداية حياتها حتى نهايتها.. وانتصرت فى أكبر معاركها.. معركة الخلود.