طه حسين .. من عاجز إلى معجزة

من كان يصدق أن هذا الطفل الفقير الأعمى الذى يسير حافى القدمين فى بلدته فى أقصى الصعيد سوف يصبح عميد الأدب العربى، ووزيرًا للتعليم يغير المجتمع المصرى بقرار يجعل التعليم مجانا لأبناء المصريين حتى إتمام المرحلة الثانوية؟ ومن كان سوف يؤلف خمسين كتابًا تترجم إلى عدة لغات، ويصبح اسمه معروفًا فى الجماعات والمؤسسات الثقافية فى العالم؟ومن كان يصدق أن هذا الطفل الذى يعانى من العجز سيصبح معجزة ويوصف بأنه أستاذ جامعى، ومدافع عن الحرية، وأديب متعدد المواهب، ورجل من رجال السياسة ترك بصمة فى تاريخ مصر الحديث، ومصلح اجتماعى، ويطلق اسمه على هذا العام (2014) بمناسبة مرور أربعين عامًا على رحيله. طفولته لم تكن تنبئ عن مستقبله، فقد ولد مبصرًا كسائر الأطفال ولكنه أصيب بالرمد فى عينيه وهو فى طفولته وتركوا أمر علاجه إلى الحلاق فكانت النتيجة أن فقد بصره، وكتب عليه أن يعانى من الألم مالايعرفه المبصرون حين كان يسير فى طريقه فلا يعرف كيف يضع قدمه على أرض مستوية أو غير مستوية، وحين يجلس مع والديه وإخوته على (الطبلية) لطعام الغداء أو العشاء يجلس مضطربًا ويقوم دون أن يشبع لأنه لايحسن أن يقتطع لقمته ولايحسن أن يغمسها فى الطبق ولايحسن أن يبلغ بها فمه، ويخيل إليه أن العيون حوله تلاحظه فترتعش يده ويقع المرق علىثوبه وهو يألم لذلك ولايستطيع أن يمنعه حتى حرم على نفسه الحساء والأرز وكل ما يؤكل بالملعقة لأنه لايعرف كيف يستعملها، وعندما كبر وعرف أن الشاعر القديم أبو العلاء المصرى كان مثله أعمى وكان يتستر فى أكله حتى على خادمه، فكان يأكل وحده.. وظل طه حسين حريصًا على أن يأكل وحده حتى بعد أن سافر فى بعثته إلى فرنسا إلى أن استطاعت زوجته سوزان أن تغير هذه العادة فأصبح يأكل مع الناس ولكنه لم يكن يأكل فى الولائم الرسمية التى كانت تقام على شرفه تكريمًا له خشية أن يقع الطعام على ملابسه أو أن يضع الملعقه بعيدًا عن الطبق.

***
كان ترتيبه السابع من بين ثلاثة عشر من الأبناء، وكان والده موظفًا محدود الدخل أقرب إلى الفقر بسبب كثرة العيال، وكان بجهد نفسه فى قراءة «عدية ياسين» ليستجيب الله لدعائه ويحصل على علاوة نصف جنيه!
وبسبب عاهته لم يكن يستطيع أن يلعب مع الأطفال فكان يكتفى بالاستماع إلى القصص التى يرويها الرجال فى مجالسهم وإلى أحاديث النساء مع أمه،ومن هنا تعلم حسن الاستماع فلم يبلغ التاسعة من عمره حتى كان يحفظ الكثير من الأغانى والقصص والأوراد والأدعية وأناشيد الصوفية.. سلمه والده إلى «سيدنا» الشيخ ليحفظ القرآن فى الكتّاب، وأتم حفظ القرآن قبل أن يتم التاسعة، ومنذ ذلك الوقت أصبح الجميع ينادونه باسم (الشيخ طه) وفى الكتّاب كان لقاؤه مع أول فتاة فى حياته «نفيسه» صبية مكفوفة البصر مثله أرسلها أهلها إلى الكتّاب لتحفظ القرآن وكانت تحكى له القصص التى تعرفها وتغنى له الأغنيات الريفية التى تعرفها وظل يذكرها حتى بعد أن تجاوز السبعين.
بعد أن حفظ القرآن أخذه الغرور فكان يذهب إلىالكتّاب دون أن يقرأ على «العريف» ما كان «سيدنا» يفرضه عليه وكانت النتيجة أن نسى ماحفظه، وكانت فضيحته مدوية أمام والده وأمام «سيدنا» حين امتحنه أمام والده على أمل أن يحصل على مكافأة سخية.. وعاد إلى الكتاب ليحفظ ولكن تكررت المأساة للمرة الثالثة فلم يحتمل الشعور بالخزى فذهب إلى حيث أمسك «الساطور» وضرب به قفاه محاولا الانتحار، ثم صاح وسقط الساطور من يده، وحين جاءت أمه وجدت أن الجرح ليس خطيرًا فانهالت عليه شتمًا وتأنيبًا ثم جذبته إلى زاوية فى المطبخ وألقته فيها وانصرفت إلى عملها.
وتكرر تجربة الفشل للمرة الرابعة حين تعثر فى حفظ ألفية ابن مالك، ولكنه فى النهاية حفظ القرآن.

***
لم يكن فقد البصر هو السبب الوحيد للحزن العميق الذى صاحبه فى حياته، ولكن عانى فى طفولته الحزن لموت أصغر شقيقاته وهى فى الرابعة من عمرها بعد أن أصيبت بالحمى وترك علاجها للوصفات الشعبية وكانت الأسرة مشغولة عن الطفلة بالاستعداد لعيد الأضحى وفجأة توفيت فى يوم العيد فظلوا أيام العيد فى الحزن عليها وظل هو يذكرها وهى تلعب وتضحك وتقفز هنا وهناك فى شقاوة محببة. وكان الحزن الأكبر حين مات أحد أشقائه وهو فى الثامنة عشرة من عمره.كان طالبًا نابغًا فى مدرسة الطب، وكان أكثر إخوته ذكاء ورقة قلب وأكثرهم حبًا لأهله والتصاقًا بهم، وفى أغسطس سنة 1902 كان يقضى إجازة الصيف مع الأسرة، وكان وباء الكوليرا قد انتشر وقضى على أسر بأكملها، ووفد إلى المدينة طبيب من وزارة الصحة لمتابعة حالات الإصابة فتطوع الشاب لمساعدته والمرور معه وعلاج المرض لكنه بعد أيام ظهرت عليه أعراض الكوليرا وظلت الأسرة حوله وهو يتألم ويصرخ من الألم إلى أن لفظ أنفاسه وهو يتلو الشهادة.. وبعد موت هذا الشقيق تغيرت نفسية طه حسين فأصبح حريصًا على أن يتقرب إلى الله بالصلاة وتلاوة القرآن وبالصدفة وكان يصلى كل فرض مرتين.. مرة لنفسه ومرة يهب ثوابها لروح أخيه، وظل لسنوات يصوم شهر رمضان وشهرًا بعده ويهب ثواب صيامه لروح أخيه.. وظلت لحظة موت الطفلة وموت الشاب فى قلبه ولم تغب عن ذاكرته.

***
يصف طه حسين نفسه فى هذه المرحلة بأنه كان قصيرًا نحيفًا شاحبًا زرى الهيئة، يذهب إلى الكتّاب على رأسه طاقية تنظف مرة كل أسبوع، وفى رجليه حذاء بالٍ لاتغيره إلا بعد أن ينتهى أجله وحتى يأذن الله ويقدر الأب على شراء حذاء جديد.
من يصدق أن هذه البداية كان يمكن أن تصل بالأعمى الفقير إلى القمة؟!

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف