حتي الآن لم يحدد الداعون الي إقامة الدولة الاسلامية طبيعة هذه الدولة, ولم يتفقوا علي النموذج لهذه الدولة من بين النماذج الحالية, هل يريدون دولة وفقا للنموذج التركي أو النموذج السعودي أو السوداني أو الايراني..الخ؟
ولم تتفق جماعات الاسلام السياسي علي موقف موحد يمثل حكم الاسلام في القضايا الأساسية التي تميز الدولة الحديثة مثل الديمقراطية ومبدأ المشاركة الشعبية في الحياة السياسية, والحرية الدينية, والمساواة الكاملة بين أصحاب العقائد المختلفة.
ونموذج تركيا يجذب أكثر من النموذج الايراني وتركيا دولة اسلامية عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي والأمين العام للمنظمة تركي, وقد بدأت ثورة أتاتورك بالغاء الخلافة العثمانية, واختيار النظام الجمهوري وتغيير اللغة وأيضا تغيير علاقة الدين بالدولة وبالمؤسسات الدينية القديمة, وعلي الرغم من مرور أكثر من90 عاما علي بدء هذا النظام فلاتزال تركيا في وضع قلق بين الدولة الدينية والدولة المدنية, وبينما يقف الجيش والمحكمة العليا وقفة متشددة للحفاظ علي علمانية الدولة كما ينص علي ذلك الدستور, إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور أحزاب اسلامية داخل النظام العلماني, ولم يمنع القوي الاسلامية من الوصول للحكم ـ بالانتخابات ـ والحصول علي الأغلبية في البرلمان وعلي رئاسة الوزارة عام1996( أربكان), ولكن الحزب الاسلامي( العدالة والتنمية) وصل الي الحكم ومع ذلك ابقي علي النص في الدستور علي ان نظام الحكم علماني وقائم علي الفصل بين الدين والدولة, واستطاع النظام التركي ان يجد صيغة للجمع بين الاسلام وبين نظام الانتخابات, والديمقراطية البرلمانية, والتعددية الحزبية بعد ان ظلت تركيا سنوات تأخذ بنظام الحزب الواحد, واندمج الاسلاميون
في الحياة السياسية في البلاد بعد ان كان النظام يعمل علي استبعادهم وكانوا هم أيضا يرفضون العمل بشرط قبول العلمانية, ولكن الاسلاميين كانوا كلما توغلوا في الأحزاب وفي النظام السياسي يتجاوزون الخطوط الحمراء الفاصلة بين الدين والسياسة كما في الدستور, ولذلك حدثت انقلابات علي ثلاث حكومات أولها حكومة عدنان مندريس الذي اتهم باحياء الدولة الدينية( وهي تهمة في الدستور والقانون) وحكم عليه بالاعدام, وانقلاب ثان في السبعينيات علي الحكومة التي حاولت ان تكون حكومة دينية, واخيرا عززت الدولة مايسمي الاسلام التركي أي تفسير النصوص والمبادئ الاسلامية دون تغيير في طبيعة الدولة المدنية, تطبيقا للدستور الذي يحظر كل علاقة للدين والدولة ويعتبر استخدام الشعارات الدينية جريمة عقوبتها السجن من سنتين الي سبع سنوات.
ويبدو أن الاسلام السياسي بدأ يتفهم طبيعة العصر, أو ربما بدأ يلجأ الي المناورة والتراجع التكتيكي, كما يبدو في اعلان زعيم الحزب الاسلامي في المغرب( حزب العدالة والتنمية) الي الاعلان بأن الحزب لن يسعي الي تطبيق الشريعة الاسلامية إذا تم تكليفه برئاسة الوزراء, وبرر ذلك بأن التعاقد بين حزبه وبين الشعب المغربي تعاقد سياسي وليس تعاقدا دينيا.
أما النظام الايراني فإنه يعلن انه ديمقراطي اسلامي أي أنه يجمع بين الحكم بالشريعة ـ وفق المفاهيم والتفسيرات الشيعية ـ وبين الديمقراطية وهي من أهم أركان الليبرالية, وهذا يعني ان يتولي رجال الدين الحكم بشعار الحكم لله وحده في كل أمور الدنيا والدين, بينما الديمقراطية تعني ان الحكم للشعب فيما لا يتعارض مع الشريعة, وفي محاولة النظام الايراني لإظهار انه وجد حلا لهذه المعادلة الصعبة انشأ مؤسسات منتخبة أهمها البرلمان لتعبر عن الديمقراطية الحديثة, وانشأ في الوقت نفسه مؤسسات غير منتخبة أو منتخبة بشكل غير مباشر وفقا لمبدأ ولاية الفقيه الذي يتمثل في مرشد الثورة وكلمته هي العليا في أمور الدنيا والدين وهو منتخب من مجلس الخبراء مدي الحياة وله سلطات واسعة بنص الدستور, ومثل مجلس صيانة الدستور المكون من رجال الدين والذي يسمح ويمنع الراغبين في الترشيح للمجلس النيابي, وهذا يعني في النهاية أن الدولة بكل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية في يد رجال الدين.
وفي دراسة للدكتورة باكينام الشرقاوي الاستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية تقول إنها زارت كلا من تركيا وايران فوجدت ان المجتمع التركي ـ العلماني ـ أكثر تدينا من المجتمع الايراني, وبالتالي يجب ـ في رأيها ـ عدم النظر الي النظام الايراني علي انه النموذج للدولة الاسلامية, ولكنه صيغة سياسية شيعية خاصة جدا للربط بين الاسلام ونظام الحكم.
وهكذا تبدو اشكالية الجمع بين الدين ونظم الحكم الديمقراطية الحديثة في حاجة الي مزيد من التعمق في دراستها.