حقيقة الإسلام السياسي‏3

 في الوقت الذي بدأت فيه النهضة في أوروبا كانت في العالم الإسلامي دولتان تعلن كل منهما أنها تطبق الشريعة الإسلامية‏,‏ هما الدولة العثمانية السنية في آسيا الصغري ومعظم المنطقة العربية‏,‏ والدولة الصفوية الشيعية في إيران‏..‏ وبينما سارت أوروبا في طريق الحداثة‏,‏ واستقلال الدولة عن الدين‏,‏ وواصلت إنجازاتها العلمية والحضارية في ظل حرية البحث والفكر‏,‏ كانت الدولتان الإسلاميتان تتراجعان وتعاني شعوبهما من تسلط الحكام وكبت الحريات وخنق الإبداع والابتكار باسم المحافظة علي الدين وتطبيق الشريعة‏.‏


اختلف تنظيم الدولة هنا وهناك‏.‏ قامت الدولة في أوروبا علي أساس الدستور‏,‏ والبرلمان‏,‏ والانتخابات‏,‏ والاحزاب‏,‏ وحرية الصحافة‏,‏ واستقلال القضاء‏,‏ بينما سارت كل من الدولتين علي أساس الحكم الفردي وإخضاع الشعبين باستخدام التعبئة الدينية وتوظيف من عرفوا في التاريخ باسم فقهاء السلطان‏,‏ وكانت مهمتهم تقديم المبررات واختلاق الأسانيد لإسباغ الشرعية الدينية علي تسلط الحكام وفسادهم‏..‏ ومع أن الدولتين كانتا ترفعان راية الإسلام وتعلنان أنهما تطبقان الشريعة الإسلامية إلا أن الخلافات بينهما وصلت إلي حد الصراع السياسي والاستراتيجي‏,‏ وتسابقت كل منهما في طرح اجتهادات فقهية ومذهبية مما أعطي لهذا الصراع السياسي صبغة دينية‏,‏ ومع أن الإسلام واحد إلا أن المصالح جعلت الأمر يبدو كأن هناك أكثر من إسلام‏,‏ وكان ذلك درسا تاريخيا كان من الممكن أن يستفيد منه المسلمون عن خطورة استخدام الدين في السياسة‏,‏ وخطورة قيام الدولة الدينية التي يستحيل أن يرتفع فيها صوت يختلف أو يعارض الحاكم وإلا كانت التهمة الجاهزة لكل معارض هي مخالفة شرع الله‏,‏ وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة‏..‏ وعندما اشتعلت المعارضة السياسية في كل من الدولتين استخدمت المعارضة الشريعة الإسلامية أيضا‏,‏


فكانت الشريعة سلاح المعارضة كما كانت الشريعة الإسلامية سلاح الحكام‏,‏ وتأكد أن الشريعة يمكن إساءة استغلالها وتوظيفها لتأييد نظام وتأييد نقيضه في الوقت نفسه‏.‏


وفي هذه الفترة ترسخت أفكار الحاكمية الإلهية والخلافة وولاية الفقيه أو نائب الإمام وإسباغ نوع من القداسة الدينية علي الحاكم‏.‏


وفي دراسة للباحث الدكتور وجيه كوثراني استعراض تاريخي للخلط بين الدين والسياسة في الدولتين وظهور الأصولية في الفكر السني والشيعي‏,‏ ولكن ذلك لم يمنع من ظهور مفكرين كبار طالبوا بعدم الخلط بين الدين والسياسة‏,‏ ومن هؤلاء المقريزي الذي كتب في التمييز بين حكم الشرع وحكم السياسة ومن أقواله‏:‏ إن الشريعة هي ما شرع الله من الدين‏,‏ وأمر به كالصلاة والصيام والحج وسائر أعمال البر‏,‏ والسياسة هي القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال‏,‏ كما رأي مفكرون آخرون أن الخلط بين الدين والسياسة يفسد العقيدة الدينية لأن الأهواء السياسية تفرض تفسيرات وفتاوي وتأويلات للنصوص الدينية لإسباغ الشرعية الدينية لسياسة كل حاكم ولو تعارضت سياسته مع من سبقوه فسوف يسير الفقه والإفتاء معه‏,‏ وهكذا سوف يبدو الإسلام مختلفا باختلاف توجهات الحكام وكأنه تحت الطلب‏,‏ وقد قام فقهاء السياسة بتبرير الأطماع السياسية استنادا إلي أحاديث موضوعة‏,‏ وإلي مغالطات منطقية ومقدمات لا تؤدي إلي النتائج التي تعمدوا التوصل إليها‏,‏ وقدموا كلمة الحاكم علي أنها كلمة الله ومراده‏,‏ وهذا ما يدعو اليوم إلي إعادة تعريف مجال الدين ومجال السياسة والتأثير المتبادل بين المجالين‏,‏


وعدم تحويل القضايا ذات الطبيعة السياسية الدنيوية إلي قضايا دينية‏,‏ والتعسف في الحكم الشرعي في أمور تدخل في إطار المبدأ الذي قرره الرسول صلي الله عليه وسلم أنتم أدري بشئون دنياكم لأن الدين ثابت والسياسة متغيرة والخلط بينهما لابد أن يؤدي إلي جمود السياسة أو إلي تفصيل المفاهيم والمبادئ الدينية لكي تتناسب مع المتغيرات السياسية‏,‏ وفي الحالتين خطورة علي الدين وعلي السياسة معا‏.‏ ويشير الدكتور سيف الدين عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية الي ما يراه البعض من أن الخلط بين الدين والسياسة معناه الخلط بين المقدس والمدني‏,‏ وإعطاء ممارسات البشر وأطماعهم وأخطائهم شرعية دينية‏,‏ وهذا ما جعل الإمام محمد عبده يلعن السياسة‏,‏ ويضيف الدكتور سيف الدين‏:‏ إن هذا الذي يصبح فيمنع الدين من الفعل في الصباح‏,‏ ويمسي فيدخل الدين إلي دائرة الفعل في المساء‏,‏ ويتحدث عن أن الذهاب إلي الانتخابات شهادة لا يجوز كتمانها شرعا‏,‏ ولا يتحدث عن حالة السلطة السياسية وتغلغلها وتغولها علي الناس واستبدادها في الحياة جميعها‏,‏ إنما يتحدث عن لغة انتقائية لا تخدم فيها السياسة الدين‏,‏ ولا يخدم فيها الدين السياسة‏,‏ ولهذا يجب أنسنة العلاقة بين الدين والسياسة أي أن يكون كل عمل ديني أو سياسي في مصلحة الإنسان وتحسين أحوال حياته وحماية حريته وكرامته وحقوقه كإنسان‏.‏


وفي تاريخ الدولة الاسلامية علي مر العصور مراحل تحديات فيها علاقة الفقهاء بالحكام كان فيها الحكام يفعلون عكس ما يقولون ولهذا كان الحكام معزولون عن الأمة ويدعون تمثيلها‏,‏ ويقومون بأعمال تتناقض مع الشريعة ويدعون أنهم يطبقون الشريعة‏,‏ وأنهم يحرصون علي إعلاء كلمة الله وتجلي ذلك بصورة واضحة علي يد السلاطين العثمانيين الذين أفسدوا الدين والسياسة وهم يعلنون تطبيق الشريعة‏!.


.



جميع الحقوق محفوظة للمؤلف