كان معاوية بن ابي سفيان يلخص فلسفته في الحكم في عبارة يقول فيها إن الحكم آل اليه بارادة الله وان مخالفته مخالفة لله, وكان يقول لمعارضيه: إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم مالم يحولوا بيننا وبين سلطاننا, ويعتبر عابد الجابري ـ المفكر المغربي ـ أن هذه كانت بداية الحكم الاستبدادي في الإسلام باستغلال الدين في السياسة إلي حد المماثلة بين الله الذي يحكم الكون, والخليفة الذي يحكم البشر.
وهكذا بدأ تأسيس السياسة علي العقيدة الدينية من خلال أساطير الإمامة, وايديولوجيا الجبر الأموية, وفقه الخلافة, وكان أبوجعفر المنصور التجسيد لهذه المرحلة, وقد عبر عن حقيقتها بصراحة بقوله: أيها الناس, إنما أنا سلطان الله علي الأرض, أسوسكم بتوفيقه... وحارسه علي ماله, أعمل فيه بمشيئته وإرادته.. وهذا هو المسار الذي اتخذه الحكام بعد ذلك علي مدي التاريخ الإسلامي فيما عدا فترات استثنائية محدودة.
أما حركات المعارضة السياسية والفقهية فكان نصيبها القمع والتنكيل دائما باسم تطبيق الشريعة, ولم يغير الحكام الراشدون شيئا في مجري المسار العام لسياسات الحكم الاستبدادي الذي ساد في معظم الفترات, ويمارس الاستبداد والقمع باسم الشريعة ويعتبر الخروج عليه ومعارضته خروجا عن طاعة الله.. ويلاحظ الجابري أن الكتابات عن الحكام المسلمين تتوقف عند النماذج النادرة التي كانت الاستثناء من القاعدة من أمثال عمر بن الخطاب, وعمر بن عبدالعزيز, دون الوقوف علي ما كان يحدث في حكم الخلفاء والسلاطين الذين حكموا عصور القمع ودون ومناقشة الأساس الفقهي الذي كانوا يستندون اليه.. لم يكشف المؤرخون بدرجة كافية عن أصول الاستبداد القائمة علي الخلط بين الآلهي والبشري.. بين ارادة الله وارادة الحكام..
ومعظم الآراء الفقهية في شئون الحكم والسياسة قالها أصحابها في ظروف سياسية معينة وتعبر عن مرحلة من مراحل تطور العقل السياسي والحضارة الإسلامية, وهي لذلك لا تمثل وحدها الشريعة الإسلامية وانما هي آراء اجتهادية ولا يجوز اعتبارها أحكاما إلهية.
وفي العصر الحديث ليس هناك نظام للحكم إلا النظام الديمقراطي القائم علي الانتخاب الحر ومسئولية الحكومات أمام البرلمان, وعلي أن الشعب هو مصدر السلطات. وتلك هي المباديء التي يمكن بها فهم وممارسة مبدأ الشوري في العصر الحاضر, وقد كان ظهور جماعات وحركات سياسية ترفع شعار الإسلام وتدعي أنها تعبر عنه وان هدفها تطبيق الشريعة بينما هي ترفض الديمقراطية الحديثة, وبعضهم يردد نظرية غريبة تقول إن الخليفة( أو الحاكم) يمكن أن يعين بمبايعة فرد واحد أو أفراد معدودين, وليس لأحد من البشر أن يحدد اختصاصات الحاكم, وانما يحددها الله وسنة رسوله, وأمثال هذه الآراء يستخرجونها من الاضابير والكتب القديمة وتجد من يروج لها اليوم, رغم أنها صادرة عن فقهاء كانوا يعبرون عن الأمر الواقع في عصرهم, كما كان يفرضه حكام زمانهم بقوة السيف.
ولذلك يدعو عابد الجابري إلي نقد الماضي.. ونقد الحاضر أيضا لكشف ما فيه من بقايا الماضي.. ويعتبر أن هذه هي الخطوة الأولي الضرورية لاعادة تأسيس العقل السياسي الإسلامي بما يتفق مع العصر, بما أن الإسلام صالح لكل زمان, ولإقامة مشروع حضاري إسلامي حديث. ولا يكفي القول بأن الحداثة دخلت بعض جوانب حياتنا منذ أكثر من مائة عام بالاحتكاك بالحضارة المعاصرة, فظهرت نظريات سياسية واقتصادية حديثة, وقامت أحزاب ونقابات وجمعيات, وظهر بناء ينتمي إلي الاقتصاد الحديث. فإن ذلك كله هو الظاهر علي السطح وكأننا اصبحنا جزءا من الحداثة العصرية, والحقيقة أن روح العشيرة والطائفية والقبلية والتطرف الديني وكثيرا من مخلفات عصور الماضي مازالت تسود الساحة وتكفي نظرة لما يجري في معظم مجتمعات ودول العالم الإسلامي..
ويكفي أن ننظر إلي تزايد الدعوة التي تبشر الناس بأن سعادتهم ورخاءهم وحرياتهم مرتبطة بالعودة إلي ما كان عليه أجدادهم في القرون الماضية, وهذا ما يجعل مشروع النهضة يبدو وكأنه حلقة استثنائية في تاريخنا نعود بعده إلي الخلف, وتعود بعده روح القبيلة هي المحرك للسياسة, ويكون الريع هو أساس الاقتصاد, وتكون الطاعة هي العلاقة بين الحاكم والمحكومين, باعتبار الحاكم هو ممثل الله وصوته ولسانه ويده.
إن المفكر المغربي عابد الجابري يكرر التأكيد علي أن تقدم المجتمعات الإسلامية رهن بالنظر إلي مرحلة التفكير المذهبي الطائفي المتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة هي مرحلة منتهية, والايمان بأن المرحلة الجديدة هي مرحلة حرية التفكير, والتعددية, وحرية الاختلاف, والتحرر من سلطة الجماعات المغلقة, سواء كانت هذه الجماعات المغلقة دينية أو سياسية.. المرحلة الجديدة يجب أن تكون مرحلة التحرر من الخضوع المطلق لفرد( الحاكم ـ زعيم القبيلة ـ شيخ الطريقة...الخ), والتحرر ايضا من التعصب بكل انواعه وبخاصة التعصب الطائفي, والبداية هي التحرر من عقل الجمود الرافض للتجديد والاجتهاد, وبناء عقل جديد للعصر الجديد الذي تعيش فيه الشعوب المتقدمة, وبدون ممارسة الحق في التفكير والنقد بروح علمية سيبقي كل حديث عن النهضة والتقدم أو الوحدة في العالم الإسلامي مجرد كلام وأمنيات لا تتحقق..
.