حقيقة الإسلام السياسي‏1

 كان معاوية بن ابي سفيان يلخص فلسفته في الحكم في عبارة يقول فيها إن الحكم آل اليه بارادة الله وان مخالفته مخالفة لله‏,‏ وكان يقول لمعارضيه‏:‏ إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم مالم يحولوا بيننا وبين سلطاننا‏,‏ ويعتبر عابد الجابري ـ المفكر المغربي ـ أن هذه كانت بداية الحكم الاستبدادي في الإسلام باستغلال الدين في السياسة إلي حد المماثلة بين الله الذي يحكم الكون‏,‏ والخليفة الذي يحكم البشر‏.‏


وهكذا بدأ تأسيس السياسة علي العقيدة الدينية من خلال أساطير الإمامة‏,‏ وايديولوجيا الجبر الأموية‏,‏ وفقه الخلافة‏,‏ وكان أبوجعفر المنصور التجسيد لهذه المرحلة‏,‏ وقد عبر عن حقيقتها بصراحة بقوله‏:‏ أيها الناس‏,‏ إنما أنا سلطان الله علي الأرض‏,‏ أسوسكم بتوفيقه‏...‏ وحارسه علي ماله‏,‏ أعمل فيه بمشيئته وإرادته‏..‏ وهذا هو المسار الذي اتخذه الحكام بعد ذلك علي مدي التاريخ الإسلامي فيما عدا فترات استثنائية محدودة‏.‏


أما حركات المعارضة السياسية والفقهية فكان نصيبها القمع والتنكيل دائما باسم تطبيق الشريعة‏,‏ ولم يغير الحكام الراشدون شيئا في مجري المسار العام لسياسات الحكم الاستبدادي الذي ساد في معظم الفترات‏,‏ ويمارس الاستبداد والقمع باسم الشريعة ويعتبر الخروج عليه ومعارضته خروجا عن طاعة الله‏..‏ ويلاحظ الجابري أن الكتابات عن الحكام المسلمين تتوقف عند النماذج النادرة التي كانت الاستثناء من القاعدة من أمثال عمر بن الخطاب‏,‏ وعمر بن عبدالعزيز‏,‏ دون الوقوف علي ما كان يحدث في حكم الخلفاء والسلاطين الذين حكموا عصور القمع ودون ومناقشة الأساس الفقهي الذي كانوا يستندون اليه‏..‏ لم يكشف المؤرخون بدرجة كافية عن أصول الاستبداد القائمة علي الخلط بين الآلهي والبشري‏..‏ بين ارادة الله وارادة الحكام‏..‏


ومعظم الآراء الفقهية في شئون الحكم والسياسة قالها أصحابها في ظروف سياسية معينة وتعبر عن مرحلة من مراحل تطور العقل السياسي والحضارة الإسلامية‏,‏ وهي لذلك لا تمثل وحدها الشريعة الإسلامية وانما هي آراء اجتهادية ولا يجوز اعتبارها أحكاما إلهية‏.‏


وفي العصر الحديث ليس هناك نظام للحكم إلا النظام الديمقراطي القائم علي الانتخاب الحر ومسئولية الحكومات أمام البرلمان‏,‏ وعلي أن الشعب هو مصدر السلطات‏.‏ وتلك هي المباديء التي يمكن بها فهم وممارسة مبدأ الشوري في العصر الحاضر‏,‏ وقد كان ظهور جماعات وحركات سياسية ترفع شعار الإسلام وتدعي أنها تعبر عنه وان هدفها تطبيق الشريعة بينما هي ترفض الديمقراطية الحديثة‏,‏ وبعضهم يردد نظرية غريبة تقول إن الخليفة‏(‏ أو الحاكم‏)‏ يمكن أن يعين بمبايعة فرد واحد أو أفراد معدودين‏,‏ وليس لأحد من البشر أن يحدد اختصاصات الحاكم‏,‏ وانما يحددها الله وسنة رسوله‏,‏ وأمثال هذه الآراء يستخرجونها من الاضابير والكتب القديمة وتجد من يروج لها اليوم‏,‏ رغم أنها صادرة عن فقهاء كانوا يعبرون عن الأمر الواقع في عصرهم‏,‏ كما كان يفرضه حكام زمانهم بقوة السيف‏.‏


ولذلك يدعو عابد الجابري إلي نقد الماضي‏..‏ ونقد الحاضر أيضا لكشف ما فيه من بقايا الماضي‏..‏ ويعتبر أن هذه هي الخطوة الأولي الضرورية لاعادة تأسيس العقل السياسي الإسلامي بما يتفق مع العصر‏,‏ بما أن الإسلام صالح لكل زمان‏,‏ ولإقامة مشروع حضاري إسلامي حديث‏.‏ ولا يكفي القول بأن الحداثة دخلت بعض جوانب حياتنا منذ أكثر من مائة عام بالاحتكاك بالحضارة المعاصرة‏,‏ فظهرت نظريات سياسية واقتصادية حديثة‏,‏ وقامت أحزاب ونقابات وجمعيات‏,‏ وظهر بناء ينتمي إلي الاقتصاد الحديث‏.‏ فإن ذلك كله هو الظاهر علي السطح وكأننا اصبحنا جزءا من الحداثة العصرية‏,‏ والحقيقة أن روح العشيرة والطائفية والقبلية والتطرف الديني وكثيرا من مخلفات عصور الماضي مازالت تسود الساحة وتكفي نظرة لما يجري في معظم مجتمعات ودول العالم الإسلامي‏..‏


ويكفي أن ننظر إلي تزايد الدعوة التي تبشر الناس بأن سعادتهم ورخاءهم وحرياتهم مرتبطة بالعودة إلي ما كان عليه أجدادهم في القرون الماضية‏,‏ وهذا ما يجعل مشروع النهضة يبدو وكأنه حلقة استثنائية في تاريخنا نعود بعده إلي الخلف‏,‏ وتعود بعده روح القبيلة هي المحرك للسياسة‏,‏ ويكون الريع هو أساس الاقتصاد‏,‏ وتكون الطاعة هي العلاقة بين الحاكم والمحكومين‏,‏ باعتبار الحاكم هو ممثل الله وصوته ولسانه ويده‏.‏


إن المفكر المغربي عابد الجابري يكرر التأكيد علي أن تقدم المجتمعات الإسلامية رهن بالنظر إلي مرحلة التفكير المذهبي الطائفي المتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة هي مرحلة منتهية‏,‏ والايمان بأن المرحلة الجديدة هي مرحلة حرية التفكير‏,‏ والتعددية‏,‏ وحرية الاختلاف‏,‏ والتحرر من سلطة الجماعات المغلقة‏,‏ سواء كانت هذه الجماعات المغلقة دينية أو سياسية‏..‏ المرحلة الجديدة يجب أن تكون مرحلة التحرر من الخضوع المطلق لفرد‏(‏ الحاكم ـ زعيم القبيلة ـ شيخ الطريقة‏...‏الخ‏),‏ والتحرر ايضا من التعصب بكل انواعه وبخاصة التعصب الطائفي‏,‏ والبداية هي التحرر من عقل الجمود الرافض للتجديد والاجتهاد‏,‏ وبناء عقل جديد للعصر الجديد الذي تعيش فيه الشعوب المتقدمة‏,‏ وبدون ممارسة الحق في التفكير والنقد بروح علمية سيبقي كل حديث عن النهضة والتقدم أو الوحدة في العالم الإسلامي مجرد كلام وأمنيات لا تتحقق‏..


.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف